سياسة

من العزلة إلى الاعتراف.. دمشق تكسب الجولة الأولى في معركة الشرعية

مايو 28, 2025

من العزلة إلى الاعتراف.. دمشق تكسب الجولة الأولى في معركة الشرعية

-معتز السيد


في لحظة مفصلية جديدة، أعلن وزير الخارجية الأمريكية تجميده لقانون قيصر لمدة 6 أشهر، بانتظار الكونغرس الأمريكي لإلغاء القانون نهائياً. هذا التطور اللافت جاء بعد سلسلة من التصريحات المتتالية من الدول الغربية التي تعد برفع العقوبات أو تعليقها مؤقتاً، لمساعدة السلطات الجديدة في سوريا على النهوض بالبلاد بعد 14 عاماً من العزلة والدمار. ولكن لا يمكن النظر إلى هذه الإجراءات على أنها اقتصادية بحتة، بل هي ضوء أخضر للقيادة في دمشق يمنحها نوعاً من الشرعية للتحرك داخلياً وخارجياً، خاصة أن من شمله رفع العقوبات هو الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس الخطاب.



هذه التحركات الغربية والأمريكية تدفع الدولة السورية إلى مرحلة جديدة، حيث تُبنى التوازنات الإقليمية مجدداً، وتتفكك الولاءات القديمة، ويُنتقل من معسكر إلى معسكر. فالعقوبات الغربية والأمريكية دائماً ما كانت تُستخدم أداة ضغط سياسية أكثر منها وسيلة تضييق اقتصادي، هدفها عزل أي قيادة سياسية في محاولة لتغيير سلوكها. ورفع العقوبات عن سوريا هو اعتراف ضمني من هذه القوى بجدارة القيادة الجديدة في المرحلة القادمة، حيث إنها نجحت في كسب توافقات دولية وإقليمية، وحوّلت سوريا من ساحة لصراعات النفوذ إلى ساحة توافقات، جميعها ترى أن استقرار سوريا فيه مصلحة للجميع، والسلطة الحالية هي الضامن لهذا الاستقرار، ولكن ضمن شروط تجعل المرحلة القادمة بمثابة اختبار، وهو ما أكده المسؤولون الغربيون والأمريكيون.



جدل الشرعية والعودة التدريجية للمشهد الدولي


طوال سنين الثورة، كانت الشرعية في سوريا مثار جدل إقليمي ودولي. فجرائم النظام المخلوع أفقدته الشرعية لدى طيف واسع من القوى الدولية، والمعارضة بكافة كياناتها ومنصاتها لم تتمكن من الحصول على شرعية بديلة. أما الآن، فقد أصبح لزاماً على المجتمع الدولي إنهاء الجدل والاعتراف ضمنياً، وبطريقة غير مباشرة، بالقيادة الجديدة. ففي العُرف السياسي، لا تُمنح الشرعية بشكل مجاني، بل تُكتسب. والسلطة الحالية في دمشق أبدت مرونة عالية في تحولاتها الأيديولوجية، وأظهرت قدراً كبيراً من التنظيم وضبط الأمن، وفتحت قنوات للتفاوض مع جميع القوى الفاعلة. وتُعد هذه المؤشرات في منطق العلاقات الدولية مؤهلات كافية للاعتراف المبدئي، دون التصريح بذلك مباشرة.


وعليه، فإن رفع العقوبات عن سوريا يُنظر إليه كأنه ضوء أخضر من المجتمع الدولي للدفع باتجاه بناء الدولة وإعادتها إلى المقاعد الدولية والأممية، بعد نيل شرعية التمثيل السياسي والدبلوماسي، والتحول من موقع المراقب إلى الدور الفاعل في المنطقة.



سوريا تستعيد دورها الإقليمي


بعد أن كانت سوريا ساحة لتصفية النزاعات على مدار العقد الماضي، يبدو أنها اليوم قادرة على أن تكون لاعباً إقليمياً هاماً بعد إعادة تأهيلها سياسياً، خاصة بعد أن تأكدت القيادة الجديدة أن السياسات الإقليمية لا تُدار بالقوة العسكرية، بل بخلق شبكات من المصالح والتوازنات.


وبعد رفع العقوبات، حُرِّرت السياسة السورية لبناء شراكات جديدة، بعضها اقتصادي، ولكن الأغلب هو شراكات أمنية واستراتيجية. فموقع سوريا الجيوسياسي يمنحها دوراً إقليمياً محتملاً لخلق جسور من التواصل بين تركيا والخليج والدول الأوروبية، وتأسيس ترتيبات أمنية وسياسية جديدة، هي الآن قيد التشكيل، وكل هذا يحتاج إلى تذليل العقبات المالية والقانونية، وهو ما وفره رفع العقوبات.



كما يمكن النظر إلى رفع العقوبات على أنه تغيير استراتيجي شامل في سياسات الغرب نحو منطقة الشرق الأوسط. فالقوى الغربية بدأت بمراجعة نفسها حول جدوى هذه العقوبات في ظل حكومة جديدة لديها تأييد كبير داخلي، وأبدت استعدادها التام للتعاون. فبدل محاولة استخدام العقوبات وسيلة ضغط تكبّلها حتى اكتساب الثقة، يبدو أن الاستراتيجية الحالية تقوم على الشراكات والاتفاقات بدل التدخل المباشر. وليس هناك أوضح من تصريح المبعوث الأمريكي الخاص الجديد إلى سوريا، توم باراك “لقد انتهى عصر التدخلات الغربية… المستقبل يعود إلى الحلول الإقليمية المبنية على الشراكات.. والدبلوماسية القائمة على الاحترام”.



الانعكاسات الإقليمية لرفع العقوبات


تجميد قانون قيصر، أو رفع بعض العقوبات أو تخفيفها من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، سيتعدى تأثيره الدولة السورية إلى دول الجوار. فمثلاً تركيا، وبحصول القيادة في دمشق على نوع من الشرعية، يبدو أن مصلحتها في إنهاء الوُجود المسلح الكردي في شرق الفرات ستتحقق أخيراً. فالآن هناك حكومة تحظى بتوافق الأغلبية ويمكن أن تحل محل “قسد” في مكافحة تنظيم الدولة والإشراف على السجون التي تضم معتقليهم.



أما بالنسبة للبنان، فإن استقرار سوريا يعني استقراره، ووجود القيادة الحالية يلجم تغوّل حزب الله، ويمهد ربما لمشروع دولة حقيقية في هذا البلد بعد سنوات من التفكك والتبعية لدول الإقليم. وجنوباً، يبدو أن الأردن تتنفس مجدداً بعد رفع العقوبات، وستفتح حدودها الشمالية على عصر جديد من الازدهار والاستثمار، بعد أن حوّلها النظام وعصاباته إلى ممر للمخدرات والكبتاغون. كما أن الأردن هي صلة الوصل بين سوريا ودول الخليج، التي من المتوقع أن تقود إعادة الإعمار في سوريا. وعليه، فإن المنطقة مقبلة على تغيير تاريخي أمني واقتصادي.



أما إسرائيل، فيبدو أنها خففت لهجتها وتصعيدها نحو حكومة دمشق الجديدة، وهو ما فرضه واقع التوافق الغربي، ومن خلال ما وصلها من إشارات سورية بأن جميع المشاكل العالقة يمكن حلها على طاولة المفاوضات.



الشرعية الداخلية: المعركة الأهم


القيادة الجديدة في سوريا تدرك أنها لم تكسب معركة الشرعية بشكل كامل، ولكن ما حققته سياسياً هو بداية الطريق. فـتقديم شريك ناجح في الحكم وضبط الأمن في منطقة مضطربة ليس سوى خطوة أولى، يجب أن يتبعها تغيير شامل في مؤسسات الدولة، وتحقيق التمثيل السياسي الحقيقي لكافة القوى الفاعلة على الأرض، بمختلف أطيافها وتوجهاتها، وضمان حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي. 



كل هذا يمكن أن يؤدي إلى دعم لاحق مستقبلاً في حال أثبتت السلطات الجديدة أنها حققت المطلوب، واجتازت جميع اختبارات الثقة.

كما أن الشرعية الحقيقية ليست اعترافاً خارجياً فقط، بل يجب أن تكون في مسيرة موازية مع الشرعية الداخلية، التي تتطلب خطوات عملية في تحقيق العدالة الاجتماعية، والنمو الاقتصادي، والحفاظ على الحريات، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والشعب. وهنا يمكن القول إن السلطات الجديدة تسير في مسار بناء الدولة السليم، وليس فقط في إجراء مناورة سياسية مع المجتمع الدولي.



ختاماً


رفع العقوبات ليس مجاملة من القوى الغربية، أو إجراء ذا طابع إنساني، بل هو نتيجة طبيعية لتحولات عميقة شهدتها الساحة السورية، واختلاف في طريقة التعامل الدولي مع منطقة الشرق الأوسط. وهو مؤشر على أن السلطات القائمة في دمشق هي شريك يمكن التفاهم معه على أساس المنافع والمصالح المشتركة. وهذا المسار مليء بالتحديات؛ فإن لم يُتعامل معها بوعي وحنكة، قد تخسر القيادة الجديدة جميع هذه المكتسبات. أما في حال تجاوزها، فسيُنتقل من دولة منكوبة إلى دولة فاعلة في المنطقة.

شارك

مقالات ذات صلة