مجتمع
في الثامن من كانون الأول 2024، ومع إعلان فصائل المعارضة السورية تحرير سوريا تنفس كثير من اللاجئين السوريين في تركيا ورأى بعضهم أن لحظة العودة قد حانت أخيراً مدفوعين بالأمل والرغبة في لمّ الشمل واستعادة حياتهم على أرض الوطن الذين حرم بعضهم منه من عقد وأكثر، فعاد عدد من السوريين الذين يقيمون في تركيا تحت قانون “الحماية المؤقتة” طوعاً إلى بلادهم، تاركين خلفهم سنوات من الغربة واللجوء.
لكن سرعان ما تبيّن أن الواقع الذي وجدوه لا يشبه ما انتظروه طويلاً، من غياب الخدمات الأساسية إلى الانهيار الاقتصادي وندرة فرص العمل، صدمتهم الحياة اليومية في سوريا ودفعهم الإحباط والندم بعد قرارهم “المتسرع” كما وصفه البعض إلى التفكير مجدداً في العودة إلى تركيا حتى لو تطلب الأمر طرقاً غير شرعية.
رصد موقع “سطور” 9 منشورات على “فيسبوك” لسوريين عبّروا فيها عن ندمهم على العودة متسائلين عن طرق تمكنهم من العودة إلى تركيا وإمكانية استعادة بطاقة “الحماية المؤقتة” في حال استطاعوا العودة ليلقوا انتقادات عدة من بعض الأشخاص الذين يرون أن عودتهم إلى تركيا “لا فائدة منها وبلدهم أحق بهم وبخبراتهم التي اكتسبوها خارج سوريا في السنوات الماضية” وآخرون نصحوهم بـ”البحث معمقاً عن طريقة تعيدهم إلى تركيا لأن سوريا لن تتوفر فيها ظروف المعيشة قبل سنوات”.
وخلال إعداد التقرير تحدث موقع “سطور” مع 4 عائلات، من بينها شاب عاد إلى سوريا بعد سنوات من تهجيره من الغوطة الشرقية في عام 2018 وسفره لاحقاً إلى تركيا وحرمانه من عائلته 7 سنوات، ليكتشف أن الوطن الذي تركه لم يعد كما كان.
“قرار العودة دون تخطيط”
وبعد أسبوعين فقط من إعلان تحرير سوريا أعلنت “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” أن عدد السوريين العائدين إلى بلادهم تجاوز إجمالي العائدين طوال عام 2023، وذلك في بيان نشرته في 24 كانون الأول عام 2024، مشيرة إلى أن عدد العائدين من تركيا وحدها بلغ حوالي 25 ألف شخص.
ومن بين العائلات الأربع التي تحدث إليها موقع “سطور”، كانت 3 عائلات عادت من تركيا خلال الأسابيع الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد. وقد وصفت هذه العائلات قرارها بالعودة بأنه كان “آنياً” اتُّخذ دون تخطيط مسبق أو تفكير جدي بطبيعة الواقع في سوريا ومدى قدرتهم على الاستقرار فيها، ما أدى إلى شعورهم بصدمة حقيقية بعد الوصول.
إسراء، شابة سورية من مدينة اللاذقية، درست وعاشت في مدينة هاتاي التركية. قالت لـ”سطور” إن سقوط النظام كان مفاجئاً لها ولعائلتها، وخلال تلك الفترة، كانوا يخططون للانتقال إلى مدينة مرسين بعد أن رفع صاحب المنزل إيجارهم بشكل كبير، لكن مع سقوط النظام غيّروا وجهتهم نحو سوريا دون أي تخطيط مسبق وعادوا في 29 كانون الأول 2024.
وبالنسبة لعائلة إسراء، فإن السبب الأساسي لاتخاذهم قرار العودة كان وجود والدها في مدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، بعد أن رُحّل من تركيا قبل أكثر من عام. كما أن توفر الكهرباء والماء والإنترنت في المدينة شجّعهم على العودة، متغاضين عن جوانب أساسية أخرى من الحياة، وهو ما تسبب لاحقاً بشعورهم بالندم.
قصة سمية الشابة المنحدرة من مدينة جبلة بريف اللاذقية، التي كانت تقيم مع عائلتها في مدينة أنطاكيا بولاية هاتاي التركية، والتحقت بالتعليم هناك حتى الصف العاشر، وتعلّمت المنهاج التركي، لكنها اضطرت إلى ترك دراستها بعد أن قررت عائلتها العودة إلى سوريا في 20 كانون الأول 2024، أي بعد أقل من أسبوعين على إعلان “تحرير سوريا”.
قالت سمية لموقع “سطور” إن القرار كان مفاجئاً وغير مخطط له، مضيفة: “ما كنا متصورين لا شكلها ولا كيف راح تكون من النواحي كلها، لا خدمات ولا ظروف جيدة”، مضيفة أنها تعيش اليوم مع أسرتها في كرفان يفتقر لأبسط مقومات الاستقرار، فيما يزداد شعورها بالندم كلما اصطدمت بالواقع اليومي في سوريا.
وأضافت أن ظروف المعيشة الصعبة، وعلى رأسها ندرة فرص العمل جعلت من فكرة الاستقرار شبه مستحيلة، فوالدها البالغ من العمر 43 عاماً ويعاني مشاكل في العمود الفقري (ديسك)، لم يتمكن حتى الآن من العثور على عمل في مهنة الخياطة التي كان يمتهنها سابقاً في تركيا.
ومما يزيد تعقيد وضعهم غياب أي حل شرعي وآمن يتيح للعائدين من تركيا استخراج أوراق قانونية مرة أخرى في حال عادوا لتركيا مجدداً بعد توقيعهم على ورقة “العودة الطوعية”، ولم تُقدم العائلة على محاولة العودة رغم شعورها بالندم بسبب التكاليف الكبيرة المرتبطة بذلك والمخاطر العالية للدخول غير الشرعي عبر الحدود، مشيرة إلى أن العائلة لا ترى أمامها اليوم إلا محاولة التأقلم مع واقع لا يشبه ما كانوا يتوقعونه.
ويقيم في تركيا بموجب قانون “الحماية المؤقتة” مليونان و723 ألفاً و421 لاجئاً سورياً بحسب أحدث إحصائية صادرة عن “رئاسة الهجرة التركية” بتاريخ 22 أيار الحالي، وبمقارنة هذه الأرقام مع بيانات نيسان 2024 يتبين أن عدد اللاجئين السوريين في تركيا حينها كان 3 ملايين و118 ألفاً و499 لاجئاً سورياً ما يشير إلى انخفاض واضح خلال فترة قصيرة.
وعرّفت رئاسة الهجرة التركية قانون “الحماية المؤقتة” الذي يعيش بموجبه السوريون في تركيا بطريقة شرعية، على أنه شكل من أشكال “الحماية”، طورته تركيا لإيجاد حلول فورية في حالات التدفق الجماعي للاجئين.
في حين اتخذ كثير من اللاجئين السوريين في تركيا قرار العودة إلى بلادهم بشكل “متسرّع وآني” نتيجة ضغوط الحياة اليومية وصعوبات المعيشة، كان دافع آخرين مختلفاً، إذ قادهم الحنين إلى الوطن ولمّة العائلة التي حُرموا منها لسنوات طويلة إلى اتخاذ قرار العودة بعد إعلان “تحرير سوريا”.
موقع “سطور” تحدث مع شابين غادرا سوريا قبل نحو عقد من الزمن، ولم يتمكنا من العودة طوال تلك الفترة خوفاً من الاعتقال على يد النظام السوري، ومع الإعلان عن “تحرير سوريا”، قررا العودة إلى بلد لم يرياه منذ سن المراهقة، ليصطدما بواقع يختلف تماماً عن الصورة التي احتفظا بها في ذاكرتهما رغم متابعتهما أخبار سوريا باستمرار.
خالد، شاب من الغوطة الشرقية يبلغ من العمر 28 عاماً، أُجبر على مغادرة سوريا عام 2018 ضمن حملات التهجير التي طالت سكان الغوطة الشرقية بريف دمشق، واستقر لاحقاً في مدينة إسطنبول التركية، حيث عمل في مجال الإعلام الرقمي، وبعد إعلان التحرير بشهرين قرر العودة إلى بلدته في شباط 2025 آملاً بلقاء عائلته وتأسيس مشروع صغير يتمثل في استوديو لتصوير المحتوى الرقمي.
أفاد خالد لـ”سطور” أنه عاد ومعه مبلغ مالي محدود جمعه خلال سنوات عمله في تركيا، غير أن الواقع الاقتصادي في منطقته لم يساعده، في ظل غياب البنية التحتية وضعف الطلب على هذا النوع من المشاريع، وأوضح أنه يعمل حالياً مقابل راتب لا يتجاوز 150 دولاراً شهرياً، مقارنة بما كان يتقاضاه في تركيا والبالغ نحو 1000 دولار، مشيراً إلى أنه يشعر بخيبة أمل مع مرور الوقت رغم سعادته بلقاء عائلته بعد سنوات من الفراق.
أما محمد، خريج الهندسة المعمارية من مدينة حمص فقد عاد إلى سوريا في 30 كانون الثاني 2025، بعد غياب دام أكثر من 10 سنوات، ورغم تمكنه من إيجاد عمل في مجاله إلا أن انقطاع الكهرباء والمياه وغياب الخدمات الأساسية جعل استقراره صعباً، كما قال لـ”سطور”.
وأوضح محمد أن خروجه من سوريا وهو في سن الـ18 وابتعاده عن عائلته كان دافعه الأكبر لاتخاذ قرار العودة بسرعة، إذ اعتقد أن فرحة النصر تستحق أن تُعاش منذ لحظتها الأولى غير أنه سرعان ما اكتشف أن الواقع المعيشي “أبعد ما يكون عن الفرح” بل يتطلب سنوات من العمل والإصلاح ليصبح قابلًا للحياة من جديد، كما وصف.
تُظهر تجارب العائدين إلى سوريا بعد إعلان “التحرير” أن قرار العودة، رغم كونه محمّلاً بالحنين والأمل، لا يكفي وحده لبناء واقع مستقر فغياب البنية التحتية وضعف الخدمات وندرة الفرص الاقتصادية، كلها عوامل تؤكد أهمية التخطيط الجيد والمتكامل قبل اتخاذ خطوة العودة، وبين وطن يرغب في احتوائهم لكنه منهك وبلد لجوء يضيق بهم يوماً بعد آخر يبقى كثير من العائدين عالقين في مساحة رمادية يبحثون فيها عن استقرار يبدو بعيد المنال.