سياسة
يعد مفهوم الكذب عنصراً أساسياً في بنية وتركيب العقل الصهيوني الإحلالي٬ فقد قامت دولة الاحتلال في الأصل على مجموعة من الأكاذيب الزائفة استخدمتها الحركة الصهيونية وعصاباتها لحشد يهود الأرض نحو فلسطين التي أسموها “أرض الميعاد”٬ معتبرين أن الصهيونية هي “حركة تحرير تهدف إلى إعادة الشعب المضطهد إلى وطن أجداده”٬ وأن هذه الأرض “بلا شعب”٬ لنفي الوجود التاريخي للفلسطينيين فيها٬ وغيرها من الأكاذيب المؤسسة للدولة. وطوال 100 عام؛ لم تنفك صنعة الأكاذيب وإخفاء الحقائق عن دولة الاحتلال٬ بل لازمتها سواء في الخطاب الإعلامي والثقافي٬ أو السياسي والعسكري.
وفن صناعة الكذب لدى العقل الصهيوني غير طارئ ولا مبتور عن امتداده الغربي الطبيعي٬ فالاستعمار الغربي نهب العالم من شرقه إلى غربه بدعوى “المهمة الحضارية – The Mission Civilisatrice”. ومن ثم؛ ظلت صناعة الكذب لدى كيان الاحتلال، من قبل حرب النكبة، تتخذ أطواراً وأشكالاً مختلفة٬ حتى أصبحت تديرها مؤسسات محترفة، معظمها في الغرب مثل Hasbara Fellowships، وتنفق ملايين الدولارات سنويا بهدف التحكم في سرد الأحداث بالأراضي المحتلة وتبييض صفحة الاحتلال من الجرائم أو الهزائم٬ وتعظيم صورة “الدولة” بوصفها الديمقراطية الوحيدة في مستنقع الاستبداد العربي٬ أو القوة العسكرية الصلبة التي لا تهتز ولا تهُزم وإن بدت مستضعفة وسط بحر من الشعوب العربية التي تبغضها٬ تماماً كصورة “داوود” الذي يصرع “جالوت” الجبار العملاق بمقلاعه٬ والتي يحب العقل الصهيوني دوماً تقمصها والاستشهاد بها.
وبوصفها سلاحاً من أجل إدارة الرأي العام وتوجيهه وحتى السيطرة عليه٬ اعتمدت ماكينة “هاسبارا” أسلوب التلاعب بالحقائق والمعلومات والترويج لسرديات مغلوطة ومضللة ومتضاربة في آن واحد٬ في حروب دولة الاحتلال المتتالية سواء مع العالم العربي أو مع الشعب الفلسطيني٬ للتغطية على أصناف الجرائم والإبادة التي ترتكبها٬ أو للتغطية على الخسائر العسكرية في المعارك.
وتتجلّى هذه الأساليب فيما يعرف بـ”الرقابة العسكرية“٬ وهي وحدة عسكرية تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يقف على رأسها ضابط يُعرف باسم “الرقيب العسكري”٬ تتخلص مهمته في منع نشر أو تسريب أي خبر أو معلومة ربما تلحق الضرر بأمن “الدولة” أو صورتها أمام جمهورها أو أصدقائها أو خصومها٬ وذلك على الرغم من التفاهمات المُسلّم بها والقائمة منذ عقود وتحديداً منذ عام 1966 بين وسائل الإعلام العبرية المختلفة وبين الدولة ومؤسستها العسكرية٬ ضمن ما يعرف بـ”اتفاقية الرقابة” التي هدفت إلى ضبط العلاقة بين الطرفين٬ وتعهدت بموجبها وسائل الإعلام بالامتثال لتعليمات الرقابة العسكرية.
وفي معركة “طوفان الأقصى”٬ وكما هو الحال في المعارك السابقة٬ نشطت الرقابة العسكرية في حظر آلاف الأخبار أو المنشورات التي حاولت وسائل إعلام أو حتى أفراد نشرها عن حيثيات المعركة وتفاصيلها٬ وخصيصاً فيما يتعلق بحجم خسائر الاحتلال الحقيقية٬ وبالطبع منع وسائل الإعلام العبرية من نشر أو تداول ما تنشره فصائل المقاومة لمشاهد استهداف الجيش وتكبيده الخسائر أو المقاطع التي يوجه بها أسرى الاحتلال رسائل لعائلاتهم أو حكومتهم.
وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، نشر موقع “إنترسبت” الأمريكي في وثيقة صادرة عن “الرقابة العسكرية الإسرائيلية” بعنوان “عملية السيوف الحديدية”، توجيهات رئيس الرقابة الإسرائيلية لوسائل الإعلام، تكشف عن تعليمات لحظر تغطية 8 مواضيع محددة دون موافقة مسبقة من وحدة “الرقابة العسكرية”، وتتضمن:
لذلك؛ ظهر في هذه المعركة أن من صلب سياسات الاحتلال الحرص الشديد على محاولة إخفاء حجم خسائر الجيش والتمويه عليها٬ على الرغم من توثيق المقاومة العديد من المشاهد لعمليات تفجير الدبابات أو قنص جنود والإجهاز عليهم من مسافة صفر٬ أو حتى أسرهم و”شحط” جثثهم في الأنفاق٬ كما كشفت المقاومة عن ذلك في جباليا يوم الأحد 26 مايو/أيار٬ حيث نفى جيش الاحتلال على الفور في منشور مقتضب “وجود أي واقعة اختطف خلالها جندي إسرائيلي في غزة”.
وهنا أذكر لك مثالاً آخر على التكتم الشديد الذي يحرص عليه الاحتلال حول حقيقة الخسائر التي يتكبدها في غزة٬ حيث نشرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” في 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي تقريراً صادماً ونادراً عن خسائر جيش الاحتلال في معركة طوفان الأقصى٬ وذكرت فيه -مخالفة بذلك الرقابة العسكرية- أن عدد الجنود الجرحى بلغ نحو 5000 آلاف حتى مطلع ذلك الشهر، من بينهم 2000 على الأقل أصبحوا من المعاقين ومبتوري الأطراف، لكن الصحيفة العبرية ما لبثت أن حذفت تقريرها بعد ضجة واسعة في منصات التواصل، ونشرت لاحقاً عدداً أقل من ذلك بكثير٬ حرص المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال على الفور التأكيد عليه٬ وهو 2000 إصابة فقط. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى حول تقارير تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية فيها عن خسائر فادحة في صفوف الجيش، استناداً إلى بيانات طبية أوردت أن مستشفيات دولة الاحتلال تكتظ بالجنود الجرحى٬ وأن المقابر تستقبل أعداداً غير مسبوقة من الجثث في أكياس سوداء.
في النهاية٬ تتلخص أسباب تكتّم الاحتلال على حقيقة خسائره وهزائمه في المعارك في الحفاظ على الجبهة الداخلية وتماسك الجمهور أمام الصدمات٬ حيث من المفترض أن المؤسسة العسكرية هي المؤسسة “الأكثر ثقة” لدى الجمهور الإسرائيلي على مدار عقود٬ وبالتالي لا يجب أن تهتز هذه الثقة٬ لأنها ستضرب أساس المشروع الصهيوني في مقتل وستحيل الأمان الزائف للبقاء في العيش بدولة الاحتلال إلى رماد. وبالطبع؛ تحرص دولة الاحتلال على الحفاظ على معنويات الجنود في أرض المعركة كي لا ينهاروا في مواجهة المقاومة الفلسطينية٬ وكذلك عدم إثارة عائلاتهم الخائفة على مصيرهم٬ والمجتمع بشكل عام٬ ضد القيادة السياسية والأمنية التي لا تريد إنهاء الحرب تحت الضغوط.
والأهم من ذلك كله٬ شن الحرب النفسية على المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية٬ في محاولة يائسة لتحويل كل جهودها النضالية إلى “عبث” لا يُجدى منه شيء٬ وغير قادر على إحداث تهديد لكيان الاحتلال٬ بحيث لا يتحول هذا النموذج المقاوم إلى مشروع إلهام حقيقي للفلسطينيين أو العرب والمسلمين أو حتى العالم. ولذلك٬ كان السابع من أكتوبر٬ وجاء الطوفان ليجرف كل هذه النظريات الأمنية٬ ويكشف هشاشة هذه “الدولة” القائمة على الزيف٬ والكذب كما تتنفس.