سياسة
عُقد لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا في 21 مايو 2025 بالبيت الأبيض في اجتماع علني بحضور وسائل إعلام عديدة. جاءت الزيارة في سياق محاولة جنوب أفريقيا إعادة تفعيل العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة بعد فترة توتر (تعليق مساعدات أميركية، خلاف على قضيّة دخول السلاح الروسي لموانئها وغيرها). كان رامافوزا يأمل في “إعادة ضبط” العلاقة الأميركية-الجنوب أفريقية، حاملاً وفداً رسمياً ضمّ رجال أعمال ولاعبي غولف جنوب أفريقيين مشهورين من بيض جنوب أفريقيا، للإيحاء بأجواء تفاهم. لكن تحوّل المشهد إلى “هجوم مدبّر” من ترامب استخدم فيه شاشات عرض وأوراقًا مطبوعة لعرض مزاعمه. في البداية مدح رامافوزا العلاقات ودعا إلى الحوار، بينما حرص ترامب على توجيه النقاش فورًا نحو المزاعم التي كان سبق أن أثارها بـ”فلكنة سياسية” حول اضطهاد البيض في جنوب أفريقيا.
وقد سبق الاجتماع بأسبوعٍ تغريدة ومواقف لترامب اتهم فيها جنوب أفريقيا بارتكاب “إبادة جماعية” ضد مواطنيها البيض من الأصول الأوروبية. وعليه كان اللقاء معقلًا لحملة إعلامية هدفها منصّة ترامب لترويج رواية «الإبادة» زاعماً مظالم زائفة، بينما رامافوزا اضطر لردّ الاتهامات بأسلوب هادئ.
بالمحصلة، شكّل هذا الحوار المشوّه وسيلة لـترامب لتقديم نفسه منقذًا لمن يسميهم “الفلاحين البيض المضطهدين”، وهو ما أثار انتقادات من قوى دولية عديدة اعتبرته استغلالًا سياسيًا للسرديات العنصرية من ترامب. كما عُقد اللقاء وسط “أجواء استثنائية”، إذ شارك فيه الملياردير الجنوب أفريقي-الأميركي إيلون ماسك كمستشار جانبي، مما أعطى الانطباع بأن المصالح الاقتصادية الشخصية للرجل قد لعبت دورًا في الخطاب القائم، وهو المُحرّض الأساس لترامب في هذا الملف.
النشيد التاريخي «اقتلوا البوير» ورمزيته الثورية
الأغنية التي استخدمها ترامب للترويج لمزاعم ” إبادة جماعية للبيض” تعود إلى فترة النضال ضد الفصل العنصري الذي مارسه البيض في جنوب أفريقيا ضد مانديلا ورفاقه. على وجه التحديد، هي جزء من التراث النضالي لحزب “الحرية الاقتصادية للجميع” (EFF)، وتغنى بها عام 2016 زعيم الحزب يوليوس مالما احتجاجًا على سيطرة الأقلية البيضاء على الأراضي. ومن المهم فقهياً وسياسياً التمييز بين رمزية الكلمات ومضمونها الحرفي. إذ اعتبرت محاكم جنوب أفريقيا هذه الأناشيد شعارات تحريضية رمزية ضد النظام العنصري، وليست أوامر مباشرة للقتل. فبحسب قرار لمحكمة الاستئناف العليا في البلاد، فإن “الشخص الواعي جيدًا يدرك أن كلمات نشيد احتجاجي كهذا لا تُفهَم حرفيًا ولا يشكل دعوة إطلاق النار ولا حمل السلاح”. وبناءً على ذلك، قضت المحاكم في عدة مناسبات بعدم تصنيف الأغنية كخطاب كراهية، معتمدةً على خلفيتها التاريخية. وقد ذكر تقرير لوكالة رويترز أن ثلاث محاكم جنوب أفريقية رفضت اعتبار النشيد “خطابًا يحض على الكراهية”، لأن سياقه تاريخي وسياسي.
وعلى نفس الخط، أكّد ممثّلو حركة النضال أنّ المعنى الحقيقي للأغنية كان تحطيم “هيمنة الأقلية البيضاء” على الأرض، وجعلها جزءًا من تراث النضال الإفريقي. وعليه، ارتأى الخبراء – مثل غاريث نيوم (مدير برنامج دراسات العنف بجنوب أفريقيا) – بأن النصوص الثورية غالبًا ما تستخدم لغة عنيفة كاستعارة أو هتاف مجازي، وأن فكرة وجود “إبادة” هي خيال بالكامل، لا تعبّر عن نية للإبادة. بالمثل، إن الأغاني أو الشعارات المماثلة في حركات التحرر العالمية – مهما شدّت بلهجتها المقاتلة – لا تُعد دليلًا كافيًا على وجود مخططات إبادية، بل يجب اعتبارها في سياقها النضالي والسياسي.
الأناشيد الثورية والعنف الرمزي حول العالم
تظهر مقارنات سياسية عالمية أن الشعارات العنفيّة تُردّد أحيانًا ضمن حركات التحرر دون أن تعكس نوايا إبادة. فراهنًا، أكدت جامعة أريزونا، أن شعار “من النهر إلى البحر” الذي تردّده مجموعات فلسطينية ينظر إليه كثيرون كدعوة للحرية والنيل من الاحتلال، لا حرفيًا إلى إبادة اليهود، رغم حساسيته في الآونة الأخيرة لدى المتلقي الغربي والذي يُحاول تجريمه. وهذا الذي يفسّر أنّ الطلاب الأميركيين الذين احتجّوا على إبادة غزّة مؤخرًا؛ يهتفون بهذا الشعار ولا يقصدون به محو إسرائيل أو قتل اليهود. بالمثل، في سياقات النضال العمالي أو الوطني حول العالم توجد كلمات تدعو إلى «تطهير الأرض من الخونة»؛ وهذه لا يُفهم منها في أغلب الحالات أفعالًا إبادية، بل مجازًا، كالهتاف ضد رموز السلطة. فقد كان مناهضو الاحتلال الفرنسي في الجزائر يرددون مثلًا “الموت للجواسيس والبلاشفة” بحملات دفاعية، وكالمقاومون في الهند في العشرينيات يرفعون شعارات مثل “تبقى الهند للشعب”، لكن هذه شعارات بالأساس تحفيزية. إذن الأمر نفسه ينطبق على أغنية ” اقتلوا البوير” الذي دعم به ترامب دعاياته ضد جنوب أفريقيا.
الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه رئيس جنوب أفريقيا
انطلاقًا مما سبق، يُلاحظ أنّ المقابلة العلنية التي جمعت بين ترامب والرئيس الجنوب أفريقي رامافوزا اتّسمت بطابع استعراضي أكثر من كونها لقاءً دبلوماسيًا متكافئًا. فقد استطاع ترامب، عبر حيلة إعلامية محسوبة، أن يستدرج نظيره الأفريقي إلى مسرحٍ مُعدّ سلفًا لتقديم صورة مشوهة عن السياسة الداخلية في جنوب أفريقيا، متمثلة في عرض نشيد مقاومة تاريخي يحوي عبارات مجازية تنتمي إلى زمن الكفاح ضد نظام الفصل العنصري، وأرفقه بصور لمقابر، زاعمًا أنها توثّق “إبادة جماعية” تُمارَس اليوم بحق البيض في البلاد.
هذه الممارسة، التي تتجلى فيها مهارة الخطاب الشعبوي في توظيف الرموز بطريقة انتقائية، تعكس نمطًا أميركيًا متكررًا في صناعة السرديات الزائفة (Storytelling)؛ إذ يبدأ الخطاب بعنصر مثير (نشيد قديم)، وينتهي بمشهد مأساوي (صور مقابر)، لكنّه يتجاهل عمدًا الجزء الأهم: أدلة وقوع الجريمة ذاتها. وبفعل تكرار هذه السردية الملفقة عبر وسائط الإعلام التقليدي والجديد، وعبر صحفيين محسوبين على تيارات تتمتع بمصداقية جماهيرية، تتحول القصة المفبركة تدريجيًا إلى “حقيقة مزعومة”، يصعب دحضها أو حتى فتح تحقيق موضوعي بشأنها. وهو النهج ذاته الذي استخدمته واشنطن في تسويغ غزو العراق، عبر ذريعة “أسلحة الدمار الشامل” التي لم يُعثر لها على أثر.
في هذا السياق، يُستوجب تفكيك الخطاب “الترامبي” الموجّه ضد جنوب أفريقيا من خلال ثلاث زوايا تحليلية:
أولًا، لا يُمكن اتخاذ نشيد وُلِد في سياق نضالي ضد قوى الاحتلال والعنصرية ذريعة لاتهام دولة ديمقراطية بممارسة الإبادة. فتاريخ الأمم زاخر بأناشيد ومقولات ذات طابع تعبوي، بعضها عنيف في ظاهره، لكنها لا تعني بالضرورة تبني العنف كخيار سياسي رسمي.
ثانيًا، القضية الجوهرية التي تؤرق إدارة ترامب ليست ما يُقال في الميادين، بل ما يُنفّذ على الأرض. فجنوب أفريقيا تبنّت سياسة عادلة لاسترجاع الأراضي الزراعية التي استولى عليها المستعمرون البيض خلال عصور الظلم العنصري. وعلى الرغم من أنّ البيض لا يشكلون سوى 5% من السكان، فإنهم لا يزالون يهيمنون على نحو 70% من الأراضي الخصبة. وإذا اعترضت واشنطن على هذا المسار، فإن العالم سيتساءل: كيف ولماذا استقر هؤلاء البيض في جنوب أفريقيا أصلًا؟ وهنا يُفتح باب الذاكرة على مصراعيه، فيُستعاد التاريخ الاستعماري، والإبادة الجماعية الحقيقية التي ارتُكبت بحق السكان الأصليين في القارات المختلفة، وهو تاريخ يُزعج الضمير الغربي حين يُذكَّر به.
ثالثًا، لا يمكن تجاهل وجود نخب اقتصادية من البيض الجنوب أفريقيين، أمثال إيلون ماسك، الذين جنوا ثرواتهم من ميراث الفصل العنصري، عبر امتيازات اقتصادية نقلوها إلى مشاريع ضخمة عالمية. وعندما رفضت الحكومة الجنوب أفريقية منح رخصة تشغيل لشركة “ستارلينك” التابعة لماسك إلا بشروط تراعي سيادة القانون والدستور، اتهمها بالعنصرية ضد البيض، متناسيًا أن البيض في البلاد لا يزالون يتمتعون بامتيازات اقتصادية وأمنية لا تتوفر لغيرهم. إذن؛ الاعتراض الحقيقي لم يكن على حقوق البيض، بل على محاولة إرساء مبدأ المساواة بين المواطنين، وهو ما لا يتقبله البعض ممّن اعتادوا على الامتياز الأبيض في بلد الأغلبية السوداء.
هذا المشهد هو الذي يفسّر، لماذا منح ترامب حق اللجوء السياسي للبيض الجنوب أفريقيين دون سواهم، في خطوة تعكس استغلالًا سياسيًا وانحيازًا إثنيًا، يؤكد أن القضية ليست إنسانية كما يُروّج لها، بل هي امتداد لمشروع أيديولوجي يُكرّس تفوق العرق الأبيض حتى خارج حدوده.
وبالنظر إلى السياق الدولي، فإنّ الاتحاد الأوروبي رفض الانخراط في هذه السردية المضلّلة من إدارة ترامب، بل وقّع اتفاقية تعاون اقتصادي فريدة من نوعها مع جنوب أفريقيا كدولة، لا كجزء من القارة. وهذا الامتياز لم يُمنح لأي دولة أفريقية من قبل، وهو بمثابة رسالة ضمنية بعدم الاعتراف باتهامات ترامب. بل حتى داخل الولايات المتحدة، صدرت مواقف من أعضاء في الحزب الديمقراطي تُكذّب صراحة ادعاءات ترامب، وتنفي وجود أي مؤشرات على إبادة جماعية ضد البيض في جنوب أفريقيا، ما يعزّز فرضية فبركة السردية برمتها.
ورغم توافر هذا الدعم السياسي والرمزي، فإن الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الرئيس رامافوزا تمثل في قبوله مناقشة هذه القضية على أرض الخصم، وتحت سقف البيت الأبيض، في محاولة غير محسوبة لإقناع ترامب بغياب نوايا الإبادة. وهو خطأ مركّب لأسباب ثلاث:
أولًا، لأن ترامب كان قد حسم حكمه مسبقًا، ليس بدافع الوقائع، بل بدافع الأيديولوجيا. ففكرة أن دولة أفريقية تسترد أراضيها من مستوطنين بيض تفتح جروحًا استعمارية غائرة، من أميركا نفسها إلى فلسطين، مرورًا بكل تجربة استيطانية تنكّرت لحقوق الشعوب الأصلية.
وبسبب غياب أيّ دليل بصري موثق أو رواية معتمدة تثبت وقوع جرائم قتل ممنهجة بحق البيض – وهي مزاعم نفتها أعضاء في الكونغرس أنفسهم – لجأ ترامب إلى استخدام صور ملتقطة من سياقات أخرى، تحديدًا من جمهورية الكونغو الديمقراطية، في محاولة لسدّ “الفجوة السردية” أو ما يمكن تسميته بـ”الحلقة المفقودة” بين النشيد السياسي وصور المقابر الجماعية التي روّج لها. فلكي تكتمل روايته، كان لا بدّ من تقديم مشاهد تُوهم بوقوع القتل فعليًا. وحين عجز عن العثور على أدلة من جنوب أفريقيا، استعار مشاهد لمجازر ارتُكبت في مناطق أخرى من القارة، إلى أن كشفت قنوات إعلامية زيف هذه الصور، كاشفة ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ”فخّ البيت الأبيض”.
ثانيًا، الغضب الأميركي غير المعلن من جنوب أفريقيا يرتبط أساسًا بتحركاتها السيادية على الساحة الدولية: انضمامها إلى مجموعة “بريكس”، تقاربها المتنامي مع الصين، والأهمّ رفعها دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. تلك وقائع لا تُغتفر في قاموس واشنطن السياسي.
ثالثًا، وهو الأهم، أن الرئيس الجنوب أفريقي وقع في فخ “الشرح غير المتكافئ”، إذ وجد نفسه يبرّر سياسات وطنية أمام رئيس أجنبي، في حين لا أحد يُطالب ترامب بتبرير سياساته المناهضة للهجرة مثلاً التي تستهدف العرب ودول لاتينية أو أفريقية، كما لا يبرر عنف شرطته ضد السود، أو دعمه غير المشروط لجماعات التفوق الأبيض. بذلك، أسس رامافوزا سابقة خطيرة: أن يُعامل البيض كمجموعة ذات “خصوصية أخلاقية”، تتطلب التوضيح والتبرير، بينما يتم تجاهل الإبادة الجماعية الحقيقية التي يرتكبها حُلفاء أمريكا، دون صور مفبركة، كما هو الحال في القضية الفلسطينية مثلاً.
خلاصة القول: لم يكن على رئيس جنوب أفريقيا أن يُشارك في مسرحية دعائية على أرض البيت الأبيض، فقبوله بذلك منح ترامب فرصة لفرض سردية زائفة، وتحويل نقاش داخلي إلى أزمة دولية. لقد أخطأ رامافوزا باللعب في ملعب الخصم، وبقواعده، وفي قضية يعرف ترامب كيف يشوّهها ببراعة.