مدونات
للكاتبة: رامة حمو
وإذا ما جئنا إلى الإنسان، فإني لأجزم أنه لا يكاد يوجد إنسان لا يتأثر بمفهوم المروءة؛ فهي صفة تنبع من صلب الشعور الإنساني الفطري. وإذا ما تطرقنا إلى هذا المفهوم، فإننا يمكننا أن نقول، بعيدًا عن تعريفه لغويًا، إنه شعور الإنسان بأن لديه قضية عظيمة يحارب من أجلها، ويشعر بالغيرة على مصلحتها.
فإذا ما دخلنا إلى عقل كل إنسان، سنجد حربًا قائمة في داخله لصالح أمرٍ ما، ونستبعد أن تكون الحرب غير متحيزة لصالح أي طرف؛ لأنه لو لم يكن هناك تحيّز، لما وُجد سبب لقيام حرب. وهنا يكمن لُبّ ما نتحدث عنه، وهو: لأي طرف يتحيّز الإنسان؟ فالقضايا التي تقوم حرب لأجلها في عقل الإنسان تمثّل الأمور من أصغرها؛ كتفكير الطفل بأنه الأحق بالحصول على الدمية التي في يد قرينه، فهو في مواجهة مشكلة طارئة تتمثل بفقدان فرصة الحصول على تلك الدمية، وهو الآن يقع في خضم المواجهة؛ فإن لم يتحيّز لفكرة أنه صاحب الحق، فإنه لن يتخذ الفعل الموالي لتلك الفكرة، وهو تصرفه المقاوم لابن عمه سالب دميته.
وهكذا وصولًا إلى كبائر الأمور؛ مثل أفكار الملك عن التهديدات القائمة ضد مملكته وشعوره بالحاجة إلى حمايتها تجاه الأخطار الخارجية أو الداخلية، فلو أنه لا يتحيّز لفكرة أن الحق والصواب هو أن تكون مملكته في حماية دائمة وسلام، فإنه لن يتخذ الفعل المضاد، وهو الإجراءات اللازمة لحماية المملكة. ففي كلا المثالين، توجد حرب قائمة بين حق وباطل، وخير وشر، ولكل إنسان فكرة معينة حول أيٍّ من أوجه الأمر هو الحق وأيّهما الباطل، فيتصرف على هذا الأساس.
وهنا يمكننا أن نستخلص بالملاحظة أن الإنسان عندما يقرر أن وجهًا ما لأي أمر هو الحق، فإنه سيتخذ الفعل التابع لذلك، وهو التحيّز لذلك الوجه، ومن ثم اتخاذ الإجراءات الضرورية لحمايته. وهذه تكون المصلحة المحمية. فالقضايا تكون إما محمية أو محاربة، ويختلف البشر وتتنوع أفعالهم، وكذلك ردود أفعالهم، تبعًا لتنوع جهات الأمور التي ينحازون إليها. وبذا، قد نتمكن من القول بأنه يكاد لا يخلو البشر، باختلاف أصنافهم وأنواعهم، من صفة المروءة، بنسب تتفاوت بينهم بحسب مقدار الحمية التي يشعرون بها تجاه قضاياهم.
ويجدر أن ننوه بأن الفكرة يتلوها شعور بالحمية لا يكفيان، وإنما لا بد من أن يتبعهما فعل حقيقي، وهذا هو جوهر موضوع المروءة الذي نتحدث عنه.
وإذا قمنا بتثبيت هذا التعريف للمروءة على المفهوم الذي قمنا بشرحه، وفي هذه الحالة إن قمنا بدمج مفهومي المروءة مع الخلافة، سنجد أن الخلافة هي أكبر وازع لصفة المروءة لدى الإنسان، إذا ما كانت قضيته الحقيقية. فإن الشؤون الصغيرة إذا ما صلحت لأن تكون أسبابًا تدفع الإنسان إلى أن يتحلّى بصفة المروءة بسبب دفاعه عنها وحمايتها، فإن الخلافة هي أجدر وأوثق ما يتمثل بقضية تستحق الحماية لها.
وإذا ما استأنفنا الحديث عن ملامح الخلافة واسترسلنا فيه، فإننا لن نحصرها، وإنما نسعى للحديث عنها بأقصى ما يمكننا؛ فإن الحديث يطول والمعاني لا تنفد. فإذا ما سار المرء تجاه غاية واضحة وبارزة، وهي أن يكون خير خليفة على الأرض، صارت العقبات كلها قابلة للتخطي بالنسبة له، فهو يريد أن يصل، كما أنه يعرف لماذا يريد ذلك. فالهدف والغاية عظيمان؛ فيصير كل يوم يبدأ به يرى ما القدر من الخطوات التي يمكنه أن يخطوها اليوم، فيخطو بقدر ما يقوى.
وجوهر الفكرة هو: عندما تكون الغاية واضحة، تصير جميع تصرفات الإنسان تصب في طريق الوصول إلى تلك الغاية. وعندها تنقسم العقبات إلى عقبات كبيرة وصغيرة؛ فالعقبات الصغيرة يتم تجاوزها باستمرار عبر دقائق اليوم الواحد، وأما العقبات الكبرى، فتُوضع لها خوارزميات خاصة لحلها، فلا يبقى الإنسان عاجزًا في مهب الريح، ولا تتكسر قواه وتخور أمام كل عقبة تخترق طريقه، بل يمشي بثبات وقوة تجاه غايته العظيمة، ويسعى في سبل الخير كلها، صغيرها وكبيرها، ما دامت تقع في طريقه.
فهو يريد أن يسعى، ويصل، ويحقق، وينجز، ويريد أن يُعَمِّر الأرض، ويجد فيها مراغمًا، وينتج شيئًا جديدًا لم تتوصل إليه البشرية من قبل، يريد أن يكون جبرًا لمن حوله ما استطاع، وأن يكون بسعةٍ يستطيع فيها أن يحتوي من حوله جميعًا دون استثناء، فهو كالبحر العميق يحوي الكثير والكثير، ولكن لا يظهر على عمقه إلا ضخائم الأمور، كالسفن عظيمة الأحجام، هي فقط التي تظهر وتطفو، أما الباقي فيبتلعه البحر بوسعه.
هو لا ينقطع ولا يتوقف، قابل لأن يتدفق باستمرار، وذلك لأنه هو المصدر وليس المستورِد. أصله منه ونهايته في كل مكان. عمقٌ يكنّ كل الرحمة والمودة لمن يلوذ إليه ليجد الأمان. فكل من يحتاجه يأتي ولا يتردد، لأنه شديد العمق. ولكن الحذر، الحذر! فمن لا يُحسن السباحة يدفعه تهوره إلى الغرق.
وكذلك الشخص عميق المرامي والآفاق، هو واسع جدًا؛ إلا أن لكل باب مفاتحه، ولن يُدخل بطريقة فظة؛ فالعمق لا يحتمل هذا، ولا بد من التروّي. فلا بأس بأن يفهم الناس بعضهم بعضًا، وألا يقسوا على بعضهم. فلكلٍّ أسلوبه الذي يقبله. فإن هدأ الإنسان نفسه وحاول أن يستوعب من حوله، وما الذي يقبلونه من أنماط التعامل والكلام، فلا بد أن يتمكن من الوصول إلى طريق مؤدية معهم توصلهم إلى نقطة الوفاق والالتقاء.
فإن كان الإنسان يتخلق بصفات كالحلم واللين وعمق الإحساس، فلا بد ألا يُغْلَظ عليه من حوله في التعامل؛ فلا يلبث طويلًا حتى يلعب إما دور الضحية، أو يضع حاجزًا يحميه من فظاظتهم، فيموت طرف من لينه أثناء وصوله إلى النقطة التي يمكنه فيها أن يتكيف مع من حوله. وهو، على كل حال، سيعيش دور المنازعة مع نفسه.
وأنا هنا أتكلم عمّن يلعب دور العمق كاملًا، فيوصله إلى جزء من الغموض، فلا يشارك أحاسيسه ولا ظروفه مع أحد، فيتألم ويضمد آلامه وحده، مع أنها أحيانًا لا تكون آلامًا تُذكر، ولكن مجرد الاستمرار في كتم المشاعر يشكّل حاجزًا كله ضغوطات نفسية تجسد شبحًا لصاحبه. فإن وجد لنفسه رفيقًا وصاحبًا أو أخًا لدودًا ودودًا يشاركه، يكون خيرًا كثيرًا وعطاءً عظيمًا من الله، فالإنسان فعلًا بحاجة لمن حوله، والمرء حقًّا يتعافى بإخوته.
فالحليم الليّن يستعين على صعوبات المواقف بالبوح بأنه شعر بكذا وكذا، والشديد بطبعه، الحنون في داخله، يستعين على قسوة طباعه بأن يشاركها مع من يتفهمه وينصحه. وهكذا يكون الثبات لقاصد دور الخليفة أكثر بكثير من لو أنه اكتفى بنفسه واعتبر نفسه المنبع والمصب. فإن كان هو المنبع، فلا بد من أن يكون هناك مكانان: أحدهما ليصب فيه أفضل ما يمكنه صبّه، والآخر ليصرّف فيه السيء من توابع صفاته.
ويخطئ الإنسان في ذلك مرة ويصيب مرة، إلى أن تتزن لديه الكفة، ويصير قادرًا على تمييز ما يجب عليه فعله إزاء مختلف المواقف التي يتعرض لها، فيعرف متى يُقْدِم ومتى يُحجِم، ومتى عليه أن يأخذ بنفسه زمام الأمور، ومتى عليه أن يتنحّى ليترك اللجام لأخ هو أجدر منه بالقيادة في هذا الموقف. ويعرف لمن يعطي الأمان، ولمن يجب ألا يسكت عليه إن أخطأ، فيكون ساكتًا عن حقه.
يعرف ما هو الصفح، ومتى يكون، ويعرف أن في بعض الحالات الصفح ليس صفحًا إن لم يتمكن من تحصيل حقه أساسًا، فيتجه إلى طريق من ينتزع حقه انتزاعًا، ويحارب بكل ما يملك لكي يحافظ على كرامته وكرامة حقوقه. يعرف أن المرء بأخلاقه ورحمته، فيغلب عليه اللين حتى يظن من يراه أنه لا ينقلب، وليس له صرامة، حتى يجده في حالٍ مخالفٍ يستدعي منه أن يكون في حالٍ غير اللين، فيجد منه كل الشدة والصلابة والقوة، فيظن أنه لا يلين. وليس هذا ولا ذاك مبتغى، ولكن في الاتزان خير، وفي التوسط خير أيضًا.
لا بد لكل إنسان أن يتفقد حياته وظروفه: أين هو من دوره كخليفة؟ هل هو المدير الحامي لحقوق موظفيه؟ هل يمكن استئمانه على الأفراد الذين يعملون ليكفوا عائلاتهم ويُعيّشوا أطفالهم؟ أم أنه غير مسؤول عنهم، فالمهم عنده هو مصالح العمل فقط؟ هل يتفقد أحوالهم ويجبر عثراتهم إن وقعت مشكلة، أم أنه لا يتسامح مع أدنى خطأ حاصل، فالخطأ مرفوض من الأساس؟ فالإدارة يمكن أن تكون شديدة، غليظة التبعات على المرؤوسين، ويمكن أن تكون مسؤولية عظيمة تلمّ من حول المدير تحت جناح الأمان.
كذلك، كل مدير يمكنه أن يكون مكانًا دافئًا جدًا لمن حوله، فيكون في ذلك سببًا في الإحسان، وتسيير مصالح البشر، وتليين المشكلات التي تواجه الأفراد. كذلك الأب في أسرته، هل يتفقد حال بنيه؟ أم أن البرّ هو واجب الأبناء فقط، ولتذهب اختلاجات دواخلهم إلى الجحيم؟ هل يصارع كل ابنٍ نفسه لكي يكون بارًّا، ولكنه لا يستطيع؛ لأن والديه لا يعينانه على برّهما، والعلاقة قائمة على طرف واحد، وهو الابن الذي تُكرَّر على مسامعه دومًا عبارات أنه لن يتوفق في حياته، وأنه كثير الخطأ في حق والديه؟ أم أن العلاقة تبادلية، فيها أخذٌ وعطاء، يقوم كلٌّ بمسؤولياته، ويؤدي حقوق من حوله دون شعور بالضيق؛ لكونه يشعر بأنه يعطي ولا يجد مقابلًا؟ فيكون في بيئة تفهمه وتحتويه، وتساعده ألا ينازع وحده في عتمة الحياة، وهذا خاصةً للأبناء الذين يكونون وحيدين في عائلاتهم.
فإن حاول كل طرف أن يبذل أقصى ما يستطيع من أجل الآخر، فلا بد من أن تستقيم الطرق وتلتقي، ولكن كل ذلك لا يكون إلا بالإصلاح وحسن تحمُّل المسؤولية. وإن جاء طالبٌ عادي وفكَّر: كيف يمكنني أن أُمثّل دور الخلافة وأنا طالب؟ آخذ ولا أعطي، فأنا بحاجة إلى العلم، وليس عندي شيء أقدمه! عندها يمكن أن توجد طرق كثيرة للعطاء؛ فالعطاء النفسي له تأثير عظيم على من حوله، فهو بذلك يساهم في دعم من حوله بأقل الطرق كلفةً ولكن أكثرها إفادة. كذلك، التطوّع والمبادرة، سواء في الفعاليات المنظمة أو في المواقف اليومية، كلها سبل لتحقيق النفع للآخرين.
فالتصرفات كلها تسند وتدعم بعضها بعضًا، والمهم أن تبرز الغاية وتبقى مرئية.