تأملات
تتمّةٌ وجب أن أستهلّ الحديث بها، لكن تفاعلي مع الخبر كان أسبق، وآن أوانها استكمالٌ لما نشر في ذات الموضع في الأسبوع المقبل، حول توصية “المفوّضين” بحقّ المعتقل وزوجته في إجراء عمليّة التلقيح الصناعي، من داخل المعتقل، وهي المعركة التي ترددتُ فيها أو خسرتها، وخاضتها ببسالة هذه السيّدة التي أعرفها والتي وصلت بها الرحلة لهذه المحطّة التي آمل أن تكتمل لا كما أرادت لها فحسب، إنّما بحريّة زوجها وكلّ المعتقلين.
وأنشر هنا النصّ الذي كتبته في خضمّ سعيي -وأنا بعدُ معتقل- في ذات السياق، نحو ذات الحلم/الأمنية، أن أحصل على طفل، استكمالاً لحياتي التي بترها المعتقل، أو مقاومة للسقوط الذي كاد يحصل من أثر المعتقل وما جرى فيه.
**
لا شيء مجرّدٌ هنا؛ التعقيدُ سمةٌ غالبة، التعقيد أصل
البساطة والحديّة أبعد الصفات عن كلّ حدثٍ وقرارٍ وخاطرة، حتى الحريّة ذلك الإلحاح المستمرّ كوجعٍ سرطانيّ منقولٍ، ضاغط، ساحق ومنتشر، يستهدف خلاياك وأنسجتك ليسرطنها هي الأخرى، لا توجع وحدها، إنّما مصوبة بحنين، شوق وافتقادٍ لـ شخص، موقف، لحظة، رائحة أو مكان.
كذلك الحال: أحتاج للحرّية براحًا مطلقًا، جسدًا وروحًا وفكرًا وسلوكًا، إن لم تكن حريّتي أنا، فلتكن كلماتي، قصائدي، رسائلي ، أو حتى نطفتي؛ ليسبقني شيءٌ مني للبراح، ليبقى شيءٌ منّي على قيد الحياة، علّه يبقيني تبعًا.
فكرة أنانيّة؟ صحيح، هذا وجهٌ للتعقيد فيها؛ أتخلّى عن الحياة في هدوءٍ وصمت، أنذوي شيئًا فشيئًا إلى أن أتلاشى كأن لم أكن، أم أخترع فرصةً (أنانيّة،أعرف) للبقاء على قيد الحياة وعلى قيد الأمل
أختلق جسرًا هو بضعةٌ مني يصلني بخارج هنا، الذي يتساقط من ذاكرتي ومن عيون الخيال فيّ؟ لن أواجه السجّان وحده في هكذا أمر، وهو لن يتسامح؛ سأواجه مجتمعًا معبّأ بالكراهية الجاهليّة، وممتلئًا بدعاية السلطة وصبيانها، المحتشدة في ذهنه لنحو عقدٍ ضدّي والرفاق وجيل الصثورة كلّه، مجتمع يهيج ويتوحّش محرّضًا على فتيات يرقصن في مواقع التواصل الاجتماعي فيُنكّل بهنّ ويُلقى بهنّ في السجن رغم كون أفراده هم متابعي هؤلاء الفتيات.
مجتمع يقتل مخالفٌ لأنّه مخالف (شيعي، بهائي، مثلي، أو معارض) ويحرقُ بيته ويعتدي على أهله ثمّ يحتفل فوق جثّته تكبيرًا وتهليلاً (السلطة طرفٌ أصيلٌ بواحديّة كلّ شيءٍ فيها: الزعيم والصوت والاتجاه والفكرة)
ومجتمع يزايد في سلفيّته المدّعاة ظاهرًا على الذين صدّروها له، ولا يعرفُ من دينه، ولا يقبل كذلك إلا رأيٌ واحد لشيخٍ واحد في زمنٍ واحد.
وسأواجه كذلك مؤسسة دنيّة غارقة في الرجعيّة فقهيًّا، والذيليّة سياسيًّا، إذ لا تتحرّجُ في ركاب السلطة ودعمها بفتاوى هزليّة تسيءُ للدين وتشوّهه تماما كما يفعل الإرهابيون-الحقيقيّون- باستخدامه لأغراض دنيئة مناقضة، وكما حرّمت من قبل التظاهر والمعارضة والنقد والشكوى، ستحرّم سعينا للحياة وتشكك في الفكرة وفينا، كما عادتها مع تلقّي أوامر مشغّليها في الأجهزة الأمنيّة.
سأواجه إعلامًا رسميًّا-لم يعد سوى الإعلام الرسمي/العسكري- لم يتوقّف استهدافه وتشويهه أصلاً رغم طول سنين غيابي وعجزي عن الردّ أو التفنيد.
سأواجه صعوبة العثور على ذلك الرحم، الذي تقبل سيّدته الخوض في نضالٍ مشابه دون شريكٍ يحمل العبء معها، تؤمن بقداسة القصد ومصيريّته، وتؤمن بعدالة القضيّة واستحقاقيّة المراد.
سأواجه عجزي عن توفير النفقات التي يتكلّفها عمل كذال الذي أريد، وشبه استحالة تهريب نطفةٍ من هنا، تقنيًّا وعمليًّا، والرسالة تعجز في الخروج تفتيشًا ووشايةً ومراقبةً وتصنّتًا، ربّما يعزّيني أن كل نطفةٍ تحرّرت للأسرى، سبقتها أخريات فشلن في التحرر أو البقاء على قيد الحياة، وأنّ أولى النُّطَف المحرّرة من سجون العدوّ في فلسطين استغرقت نحو ستّ لثمان سنين محفوظةً بانتظار تقبّل المجتمع لها، وأنّ من زوجات الأسرى أنفسهنّ من لم تقبل الفكرة هي أو أهلها.
إذا كان مجتمع المعركة الدائمة والمقاومة الدائمة احتاج هكذا وقت لتقبّلها رغم فارق النظرة المبني أساسًا على تباين القضيّة ووضوح المعسكرين المتحاربين، بين هناك وهنا، وضوحًا هائلاً لا لبس فيه لصالح أسرى فلسطين، نفتقده هنا ونلقى مكانه مزيدًا من الالتباس والتلفيق والتشويه والتخوين.
لكنّ الأمر يستحقُّ على أيّة حال؛ أن تُخرج طفلاً للحياة رغم الموت المغرق المهلك الذي أنت في عين عاصفته، وأن تمدّ جسرًا للخارج
رغم الحيطان التي تنقضّ عليك فتسحقق أو تكاد، أو تستسلم لها أنت فتنسحق على يدك.
أن تسعى للحريّة رغم خذلان جسدك وعزمك لك، هذا كلّه يستحقّ، أمّا ما سيحصل فعلاً، فهو ما سيكشفه القادم أو ينسفه.”
انتهت الرسالة، وانتهت المحاولات بفشلٍ لستُ فخورًا به، وفرحٍ بأنّ أُخر، فعلوا بشجاعة أو كادوا، علّهم ينتصرون على مرادات السجن والسجّان، لهم وللبلد وكلّ أهله، لتنتصر الحياةُ في النهاية، كما يليق.