Blog
أسير في طرقات الحياة متلمّسًا جدرانها، وكأنّي أبحث عن آثار الحرف حين خَطَّهُ العابرون في لحظات الفقد والانتظار، لعلّها تسلّيني عن غربةٍ لم تكن وليدة المكان، بل ولدت يوم غربت القيم وتبدّلت البوصلة، فلم نعد نُميّز الشمال من الجنوب، ولا الضياء من الظلام. كانت قوافلُ الأنبياء تسيرُ على هدي النجوم، واليوم نُساق خلف شعاراتٍ زائفة، لا ضوء فيها ولا اتجاه.
لقد نصبت الغربة خيامها في قلوبنا لا في الصحاري، ودقّت أوتادها بآهات المكروب والمخذول، فتجذرت فينا لا كمحنةٍ عابرة بل كهويةٍ بديلة. وما عادت القناديل تُنير الدرب، ولا الدمع يُطفئ لهيب الروح، حتى امتلأت المنافي بوجوهٍ تشبهنا، لكنها بلا ملامح. نرفع أكفنا للسّماء متوسّلين الطير الأبابيل، أن تمطر على الباطل حجارةً من سجيل، ونعود بذاكرتنا إلى قابيل وهابيل، إلى أول دمٍ سُفك لأن النفس إذا انفصلت عن الوحي، عميت بصيرتها وسقطت في مهاوي الشر.
في هذا التيه، لا يجد الإنسان خلاصًا إلا بالعودة إلى “المنهج”، ذلك الذي فصّله محمد أحمد الراشد بدقة لا يتقنها إلا من عرف الداء، وعاش المعاناة، وسلك الطريق. إن منهج العودة إلى النهضة يبدأ من الداخل، من الفرد الذي يخلع عنه رداء الغفلة، ويستبدله بثوب المجاهدة والتزكية. فلا دعوة بغير إصلاح النفس، ولا بناء حضاري دون بناء إيماني يُعيد ترتيب الأولويات ويحرر الإنسان من أهوائه. “التجرد” الذي يطرحه الراشد ليس حالة مثالية منعزلة عن الواقع، بل هو المِفتاح الذي يُعالج به الفرد جذور الضعف في قلبه، ويؤسس عليه مشروع الانبعاث، فالنية الخالصة لله هي أولى معالم الطريق.
ثم إن الراشد لا يُقدم الدعوة كمجرد نشاط وعظي، بل كـ”بناء منظم” تشكل فيه التربية المحور الأهم، حيث يُعاد تشكيل الإنسان ليكون لبنة صلبة في جدار الأمة المتين. وهنا لا تكفي النوايا، بل لا بد من “برنامج تربية” صارم، يشمل تزكية النفس، وفهم الشريعة، ومتابعة الواقع، وتدريب الإرادة، والتعوّد على العمل الجماعي المنضبط، لأن الاغتراب الذي نعيشه اليوم ليس فقط في الهوية أو المؤسسات، بل اغتراب في المفاهيم، في السلوك، في الانتماء، في ترتيب الأولويات.
ومع تزكية النفس، لا بد من الارتقاء في فهم السياسة الشرعية، حيث لا يُفصل بين الدين وشؤون الأمة كما يُراد لنا. الراشد يرسم المسار التربوي-السياسي، الذي يحفظ الدين ويقيم العدل، دون أن يُحطم الواقع أو يتجاهله. فتربية بلا وعي سياسي تُنتج جيلًا حسن النية ضعيف التأثير، وعمل سياسي بلا تربية ينتج طغاة جددًا بأسماء إسلامية. إن الأمة اليوم في أشد الحاجة إلى من يمسك العصا من الوسط: من يربّي ويخطط، من يعبد ويعمل، من يتقن قراءة الواقع ولا يضيّع البوصلة في أزقة الموازنات.
ثم يأتي مشروع “التغيير الحضاري” الذي لا يقوم إلا على “صناعة الإنسان الرسالي”، الذي لا يكتفي بالصلاح الفردي، بل يحمل في قلبه همّ الأمة ووجعها، ويتعامل مع الحياة كـ”ساحة ابتلاء” وميدان عمل. الإنسان الرسالي الذي ينشده الراشد هو الذي يصوغ حياته كلها وفق مقاصد الشريعة، ويرى في كل تخصص علمي أو نشاط مهني بابًا لخدمة الدين، فيزرع حيث لا زرع، ويأوي إلى كهف الصبر إذا اشتدت العتمة، لكنه لا يغادر الميدان.
وفي طريق التكوين، يذكّر الراشد أن “الروابط الأخوية” هي الزاد الذي يُعين على الاستمرار. فمهما كان الفرد مخلصًا، فإنه لا يستطيع أن يحمل أعباء الغربة وحده. فلا بد من صفٍ مؤمن متراص، تحكمه المحبة والنصيحة والتجرد، وينهض فيه كل فرد على قدر طاقته. والحق أن هذا المفهوم من صميم الهدي النبوي، حيث كانت الأخوّة قبل الدولة، والحب في الله قبل الجهاد، والصفّ المتماسك قبل السيوف والرماح.
ثم تأتي لحظة الرقائق، لحظة الخلوة والانكسار، حيث يدرك الداعية أن الإصلاح ليس نشاطًا بل عبادة، وأن الطريق لن يُفتح بالذكاء والتخطيط وحده، بل بدموع الليل، وصدق التضرّع، وكثرة الاستغفار. في هذا الباب، يُبدع الراشد في الجمع بين فقه القلب وفقه الحركة، ويعلّم أبناء الصحوة كيف يتعاملون مع أنفسهم إذا أبطأت الثمار، أو خذلتهم الدنيا، أو رأوا الباطل يتقدّم، لأن طريق الأنبياء ليس دائمًا معبّدًا، لكنه دائمًا موصول بالله.
إن الغربة التي نحياها اليوم ليست قدرًا دائمًا، بل مرحلة من مراحل التكوين، كما كانت غربة مكة تمهيدًا لفتح مكة. ومنهج الراشد يذكّرنا بأن النصر لا يأتي فجأة، بل هو تراكمُ جهدٍ، واستمرار صدق، وصدق نية، ورباطُ قلبٍ، وبذلُ وقت. وإذا أخذ كل فرد بهذا المنهج، واستيقنت الجماعات أن طريقها لا يُبنى بالحماس المؤقت، بل بالمنهج المتين، عندها يبدأ الطوفان بالتراجع، وتعود النجوم تُضيء الدرب من جديد.
وإلى ذلك الحين، لن نيأس، ولن نستوحش الطريق لقلة السالكين، فالله معنا، والحق لا يموت، والعاقبة للمتقين.