آراء

إلى أخي “رودريجيز”.. الرجل الذي ضحى لغزة بستين سنة!

مايو 24, 2025

إلى أخي “رودريجيز”.. الرجل الذي ضحى لغزة بستين سنة!

لا يفل الرصاص إلا الرصاص، ولا تشفي الضماداتُ جراح المفجوعين، بل الطلقاتُ في صدور قاتليهم، ولا يطيب القلوبَ المنهكة من الفقد، والأقدامَ المتكسرة من النزوح، والعيون الشاخصة من الفاجعة إلا ما يطرب الآذان ويجلي الهموم من الصدور، ولا يصحح الخطوط الملتوية على الخريطة، والعناوين الملتوية في افتتاحيات الصحف، والأساليب الملتوية في المؤتمرات الرخيصة، سوى رجل يقوم مقامًا يحبه الله، ويقف موقفًا يجله التاريخ، ويقدم فداءً تعظمه دماء الشهداء الأبرار في غزة، فيثأر لأطفال لم يكن يسمع عنهم قبل ثلاث سنوات من الآن، واضعًا حدًّا للبلطجة الإسرائيلية في أرجاء العالم، حيث باتوا غير منتبهين إلى أن “إسرائيل” بذاتها مدعاة للكراهية.

المجد لـ”أخِ غزة”، الشاب الأمريكي إلياس رودريجيز، الرجل الذي قرر في لحظة مجنونة، وهو بكامل قواه العقلية على الرغم من ذلك، أن يقضي بقية عمره في السجن، وهو بعدُ لم يقطع إلا عقوده الثلاثة الأولى، فأي رجل ذاك الذي قد يذهب فجأةً إلى سجن فيدرالي في الولايات المتحدة، ويسلمهم يديه، ويقول لهم من فضلكم، اسجنوني هنا، من الآن، ستين عاما، ولا تروني الشمس مجددًا إلا صباح يوم مشرق في عام 2080 على أحسن تقدير؟! إنه “إلياس”!

رجل واحد يفعلها اليوم، في أمريكا، واشنطن، بمحيط المتحف اليهودي، في فعالية يحضرها دبلوماسيون إسرائيليون، قتلة محتملون أو سابقون، ومعتدون حاليون ومنذ لحظة ميلادهم، ومحتلون للأرض ومنتهكون للعرض، مجموعة من السفلة في ساحة بالعاصمة الأمريكية، يجتمعون في حفل قميء، تلك الدعوة التي التقطها إلياس، ونسج عليها خيوط أفكاره، وحاك منها ثوب العز الذي لن يخلعه إلى أن يموت، ولن يموت “إلياس” أبدًا الموت الذي يغادر به ذكره الحياة، هو رجلٌ لن تنساه فلسطين أبدًا، ومن لا تنساه فلسطين لا تنساه الأرض ولا ذاكرة المنسيين!

عملٌ مفاجئ للجميع، صحيح وصلت كراهية “الإسرائيليين” إلى حد لا يطاق، والعالم “جاضض” منهم لدرجة مرعبة، والأحرار في كل مكان -وهم الأكثرية- باتوا لا يجدون موضعًا يفرغون فيه شحنة الغضب اليومية من المجازر المفجعة، حتى المظاهرات في الغرب باتت تعج بالبكاء المقهور أكثر من الهتاف الهصور، وأي فعالية تخلو من اشتباك باتت لا يعول عليها، ثمة تصادم حقيقي مع سلطةٍ ما لا بد أن يكون، وهي في تلك الموضع سلطة وكيلة عن “مصالح الاحتلال الإسرائيلي”، لذلك سترى ذلك الصراع حاضرًا بقوة في مظاهرات الجامعات، وفي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والبلدان التي تسخر أجهزة شرطتها لحماية “أمن إسرائيل”، أمن تلك السمعة العالمية المزيفة.

آرون بوشنل، الجندي في القوات الجوية الأمريكية، لم يتحمل المنظر، لم يتحمل التظاهر حتى، لم يتحمل الصمت والعجز، ولا الصراخ الذي يصم الآذان ولكنه لا يحرك السواعد، فأحرق نفسه شريفا عظيما صادقا مخلصا بطلا مضحيا لأجل غزة، وقال كلماته الخالدة حينها: “أنا على وشك المشاركة في عمل احتجاجي متطرف، ولكن مقارنة بما شهده الناس في فلسطين على أيدي الإسرائيليين، فهو ليس متطرفا على الإطلاق”.


أما رودريجيز فاختار الطريقة التي أجادها، أن يعبئ خزنة مسدسه، ثم يفرغ عشر طلقات في جسدي دبلوماسي إسرائيلي وزوجته، جالسًا بعدها في هدوء يخبر بكل شيء، بأنها ليست لحظة تهور ولا شحنة غضب ولا انفعالا عابرا، وإنما منهج مدروس بعناية، رجلٌ قرر القرار الذي لا يتخيله رجل، بأن يضحي بـ”أرض الأحلام”، ويختار زنزانة حقيرة ضيقة في سجونها، واضعًا قدمًا على قدم كسنوارٍ أصيل، منتظرًا قدوم الشرطة، هاتفًا بكل هدوء، ولحن لا يشذ ولا ينشز عن معزوفته، “فري.. فري بالستين”!


الحادث بكل رمزياته في كفة، وما يحمله من بعده في كفة أخرى تماما، إن أكثر ما يخشاه صانع القرار الأمريكي والوغد الإسرائيلي والشركاء الغربيون هو “الإلهام”، أن تتحول تلك اللقطة إلى مشهد عام، وذلك الفعل الفردي الجنوني إلى منهج له أسس وقوام، و”إلياس” إلى فكرة سريعة العدوى، ووسيلته في التعبير عن غضبه ورفضه للمجازر الإسرائيلية في فلسطين إلى وسيلة معتمدة لدى الأوروبيين الجدد، الشبان الذين تناوشهم إدارات الجامعات، والمتظاهرين الذين تعتقلهم الشرطة في ساحات البلاد، ليحاولوا التأثير فعلًا في مسار الأحداث، بالشيء الصحيح الوحيد الذي لم يفعلوه بعد؛ أن يصوبوا الفوهة، بدلًا من الأفواه!


ثم إن ما يقض مضاجع “إسرائيل” هو انهيار أسطورتها “الأخلاقية” الركيكة، ومحاولتها فرض نفسها “دولةً” على العالم، لها “مواطنون” يعاملون كسياح في دول العالم، تلك الدول تحديدا لها شعوب، وتلك الشعوب لا تقبل هؤلاء المجرمين، القطعة من جريمة متكاملة، النطفة في ابنة حرام لعينة كاملة اسمها “إسرائيل”، ذلك حقيقةً ما يكمل التهديد بالزوال. فإن كانت كراهية هتلر لهم شجعتهم على الهروب إلى فلسطين واحتلالها، واليوم حين تكرههم فلسطين وشعوب العالم لهم بفعل مجازرهم ووحشيتهم في غزة.. إلى أين سيذهبون؟! إنه التيه مجددًا!


ذلك الفعل “الملهم” له ما بعده، وإن كان كلمة “كليشيه” مكررة، فإنها صادقة الآن وواقعة غدًا، فإن “إلياس” الذي أحرقته غزة حد البحث عن وسيلة يفني بها عمره لأجلها، مثله ملايين آخرون، وشبان بالآلاف لا يلوون على شيء، إلا أن تتوقف تلك المحرقة الكبرى؛ أما العرب، ففيهم من الخير الكثير ومن “الثأر” أكثر، لكن اللحظة، التي سينعم الله عليهم بها، ذات نهارٍ، ليطردوا العجز والكسل، لم تأتِ بعد، لكنها على كل حال موجودة بانتظارهم، وقد سبقهم إليها “رودريجيز”.. سيد فتيان مناصرة القضية! فمن يكون السيد الجديد؟


ونهايةً، إلى أخي رودريجيز.. غزة تحبك، وفلسطين باتت تحفظ اسمك، وأحرار العالم يخبرونك بأن العصا التي التقطتها، ثم رميتها إليهم، لم تسقط أرضًا، وإنما تُسقطهم.. عن قريب.

قبلةٌ لجبينك، ويديك.

شارك

مقالات ذات صلة