مجتمع

كيف نعيد بناء الكرامة الإنسانية في مجتمع تعمّد النظام إذلاله؟

مايو 23, 2025

كيف نعيد بناء الكرامة الإنسانية في مجتمع تعمّد النظام إذلاله؟

لم تكن حرب النظام السوري على شعبه مجرد صراع دموي قائم على القتل والدمار، بل كانت حرباً شاملة استهدفت ما هو أعمق من الممتلكات والماديات. استهدفت الكرامة الإنسانية، واتخذت من الإذلال الممنهج أداة مركزية لفرض السيطرة وترسيخ السلطة والهيمنة، من خلال زرع الخوف المزمن في قلوب السوريين وتحويله إلى نمط حياة، وذلك بتعريضهم لجرعات كبيرة ومستمرة من العنف والإرهاب.



لم يقتصر الإذلال على فئة محددة مثل المعارضين لحكم الأسد أو المعتقلين في الأفرع الأمنية، بل تسلل ليشمل كل جانب من جوانب الحياة.



تعمد النظام السوري إذلال المواطنين بلقمة عيشهم واحتياجاتهم الأساسية، وباتت مشاهد طوابير الخبز والغاز والحواجز الأمنية التي كانت تسرق وتنهب وتتعدى بشكل تعسفي على المواطنين مألوفة في الشارع السوري، وتصالح معها الكثيرون بوصفها نمط حياة لا حل له.



وتحوّل أصغر موظف أمني أو حكومي أو عنصر في الجيش إلى سلطة مطلقة تملك صلاحيات الترهيب والسرقة والإهانة بشكل معلن، دون خوف من المساءلة، في نظام جعل من الإذلال مهداً في الحكم، لا خطأ فردياً.


 

تأثير سلاح الإذلال على المدى الطويل


على المدى الطويل، يتحوّل الإذلال الجماعي المتكرر من تجربة فردية مؤقتة لها تأثير سطحي إلى سلاح فعّال لتدمير الإنسان من الداخل.

عندما يكون الإذلال واقعاً يومياً يجرّد الفرد من كلمته وحقه في الاعتراض أو الامتعاض، تتضخم مشاعر الخوف والدونية، ويتآكل بشكل تدريجي تقدير الإنسان لذاته، ويفقد إيمانه بقدرته على التغيير، وتتلاشى مشاعر الاستحقاق، وتنمو مشاعر الدونية والعجز وعدم الكفاءة.



وبهذه الطريقة، يعمل سلاح الإذلال على تحويل الإنسان إلى كائن قابل للخضوع والانقياد، عاجز عن المطالبة أو حتى التفكير بما هو أفضل.


 

عدوى الإذلال.. تحوّل الضحية إلى جلاد


لا تقتصر الإهانة والإذلال بتأثيرها على الفرد الذي يتعرض لتلك المواقف فحسب، بل كثيراً ما تترك ندبات في النفس تدفع بعض الأشخاص إلى البحث عن بدائل تعويضية تجنبهم مشاعر العار والذل، وتخفف من ثقل الإهانة، وتمنحهم مشاعر السيطرة وتقدير الذات، لكن هذه البدائل لا تكون بالضرورة بدائل صحية، بل غالباً ما تكون بدائل مشوّهة.



يُعاد إنتاج الإذلال الذي يتعرض له الفرد بصورة مختلفة وجديدة، فيلجأ البعض بوعي أو بدون وعي إلى نقل تجاربهم وما تعرضوا له على أشخاص أضعف منهم أو في مستويات اجتماعية أدنى، حسب هرم السلطة.



فمثلاً، يُهين المعلم طلابه في الفصل بعد أن تعرض بدوره للإهانة من الإدارة، ويتحوّل مدير قسم إلى مدير متسلط على من هم دونه في التسلسل الإداري بعد أن مرّ بتجربة مشابهة، ويعنف الأب أبناءه بعد أن تعرّض للإهانة في بيئة عمله أو لقمة عيشه، وهذا الطفل المُعنّف يتحوّل إلى تلميذ يتخذ من التنمر وسيلة لفرض سلطته وسيطرته على أقرانه.



وبهذا، يتحوّل الإذلال إلى دائرة مغلقة ونمط وسلوك مجتمعي يتوارثه الأفراد، يفرغ فيه كلّ منهم ألمه وغضبه على الآخر الأضعف.

 


أهمية إعادة بناء الكرامة الإنسانية


تتعارض الإهانة والإذلال مع جوهر الكرامة الإنسانية؛ فالكرامة ليست ترفاً أو امتيازاً، بل هي حجر أساس في عملية بناء الإنسان الحر والفاعل. وبناء الإنسان الفاعل ركيزة أساسية في بناء مجتمع ودولة تليق بتطلعات السوريين وتضحياتهم.


وهنا تبرز فكرة إعادة بناء الكرامة الإنسانية، التي استهدفها النظام لعقود، كهدف محوري في مرحلة ما بعد التحرير. ويمكن اعتبار هذا الأمر خطوة جوهرية لكسر حلقات الإذلال التي توارثها المجتمع على مدار سنوات طويلة.



لا يتحقّق ذلك إلا عبر الوعي؛ الوعي الذي لا يُختزل بالمطالبة بالحقوق، بل يمتد ويتسع ليشمل إدراك الفرد لدوره ومسؤولياته وواجباته تجاه نفسه وتجاه مجتمعه.


هذا الوعي هو السلاح المضاد الأقوى لسلاح الإذلال الذي استخدمه النظام، وبهذا يكون الوعي السلاح الذي يقف في وجه القهر، والضمانة الحقيقية التي تمنع إعادة إنتاج الذل بصور جديدة.


 

علامات التعافي وملامح الوعي الجديد


رغم كل ما تعرض له الشعب السوري من قمع وإذلال ممنهج، إلا أنه تمرد على الواقع وثار في وجه الظلم، ودفع على مدى أربعة عشر عاماً ثمناً باهظاً في سبيل نيل حريته واسترداد كرامته. اليوم، وبعد سقوط النظام، بات المجتمع أكثر وعياً بذاته وحقوقه، وأكثر جرأة على التعبير والاحتجاج.



اللافت أن فئات كانت صامتة طيلة سنوات الحرب بدأت تعلو أصواتها وتطالب وتنتقد، ورغم أنه مؤشر إيجابي على استعادة الوعي بالكرامة والاستحقاق؛ إلا أن هذا النقد، في كثير من الأحيان، يأخذ طابعاً انفعالياً وكأنه رد فعل مؤجّل على القهر القديم، لا على الواقع الراهن، ويتحوّل النقد إلى وسيلة انتقام رمزي، بالتالي تغيب الموضوعية في الطرح والانتقاد، وتبرز الحاجة إلى فهم “الاستحقاق الواعي”.



أي أن نعي تجاربنا الماضية ونعترف بها، لا أن نتجاوزها ونتخطاها كأنها لم تكن. التجارب القمعية السابقة هي ذاكرة حيّة تحتاج إلى مساحة للتفريغ والفهم، لا للإنكار أو التستر. معالجة تجارب الماضي والتعامل معها بصدق يساعدنا على تفعيل النقد كأداة لبناء الذات والمجتمع، لا كوسيلة لتفريغ الغضب وإثبات الوجود. هذا الاستحقاق الواعي والنقد البنّاء يمكننا من التحرر من آثار الإذلال والتعافي منه.

 


لا يكفي الحديث عن الكرامة الإنسانية في إطار نظري أو وجداني فقط؛ فقد تميّز النظام البائد بهذه الخطابات الزائفة التي خدّرت وعي الشعب. لا بد من ترجمة هذا المفهوم إلى ممارسات يومية ملموسة تعيد للأفراد ثقتهم بأنفسهم وبالدولة، بعيداً عن الشعارات السياسية الفارغة.



وهذه ليست مهمة فردية، ولا تقتصر على نشر التوعية، بل هي التزام جماعي يبدأ من تحسين الواقع الخدمي بما يضمن ويصون كرامة المواطن، ثم يمتد ليشمل قضاءً عادلاً ومستقلاً، وتكافؤاً في فرص العمل والتعليم، إضافة إلى إعلام رسمي يعكس بصدق الواقع ويحترم عقول المواطنين، وأجهزة أمنية تحمي وتخدم الشعب لا النظام الحاكم، وغيرها من الممارسات والسياسات التي تحوّل العبارات الرنانة إلى واقع ملموس، يكون فيه الإنسان هو الغاية، لا الأداة.

شارك

مقالات ذات صلة