سياسة

من ظلّ المرجعية إلى حضن الدولة: قسد أمام استحقاق الهوية

مايو 23, 2025

من ظلّ المرجعية إلى حضن الدولة: قسد أمام استحقاق الهوية

من السهل الصعود إلى المنصة والإعلان عن “حلّ تاريخي” لتنظيم مسلح خاض حروباً إقليمية على مدى عقود، لكن من الصعب ترجمة هذا الإعلان إلى واقع فعلي على الأرض. في السياسة، لا تموت التنظيمات بقرارات فوقية أو مؤتمرات حزبية؛ بل تموت حين تفقد أدواتها وسرديتها وشبكاتها. ولهذا، فإن إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) في 12 أيار/مايو 2025 عن حلّ نفسه لا يبدو نهاية لقصة، بل بداية لفصل غامض جديد، قد يتضمن تبديل الأشكال أكثر من التخلي عن المشروع نفسه.



هذا الحزب، الذي شكّل لعقود العمود الفقري لتمرد كردي عابر للحدود، وعمل كحاضنة فكرية وتنظيمية لمجموعة من الكيانات المسلحة في سوريا والعراق، لا يمكن أن يُطوى ملفه بجملة افتتاحية من مؤتمر حزبي. وكما يقول ماكس فيبر، فإن السلطة لا تُقاس بمشروعيتها فقط، بل بقدرتها على الاستمرار والتأثير. وحلّ الحزب، وفق هذا المنطق، قد يكون إعادة تموضع لا انتحاراً سياسياً.



من بين الكيانات الأكثر تَأثُّراً بهذا الإعلان، تأتي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي نشأت من رحم وحدات حماية الشعب YPG، وتغذت سياسياً وعسكرياً على مرجعية حزب العمال. ومع دخول الحزب مرحلة الانسحاب أو التحول، تجد قسد نفسها أمام تحدٍ وجودي: هل تعيد تعريف ذاتها كجسم سوري وطني؟ أم تبقى أسيرة رواية ثورية قد تجاوزها الزمن؟



في ظل هذه التحولات، تُطرح أسئلة جوهرية: هل تعكس خطوة الحل قناعة فعلية بانتهاء الدور التاريخي لحزب العمال، أم أنها مجرد مناورة استراتيجية للالتفاف على الضغط التركي والدولي؟ وهل تقود هذه الخطوة قسد نحو اندماج سلس ضمن الدولة السورية الجديدة؟ أم تفتح باب الانقسام الداخلي والصراع على الهوية والولاء؟



قسد بين خطاب عبدي وأجندة قنديل: تفكيك أم إعادة تموضع؟


منذ لحظة إعلان حزب العمال الكردستاني عن حلّ نفسه، سارع مظلوم عبدي، القائد العام لقسد، إلى تبنّي الموقف باعتباره “قراراً تاريخياً وشجاعاً”، مؤكّداً أن قسد دخلت مرحلة جديدة، تتحوّل فيها من قوة عسكرية ثورية إلى شريك سياسي يسعى للاندماج في الدولة السورية. هذا الخطاب بدا موجهاً للخارج بقدر ما هو للداخل، في محاولة لطمأنة الفاعلين الدوليين والإقليميين بأن قسد قادرة على الانفصال عن إرث حزب العمال، والتحول إلى كيان سوري قابل للتطبيع.



الخطاب السياسي الذي يتبناه مظلوم عبدي لا يوجَّه فقط نحو الداخل الكردي أو الحكومة السورية، بل أيضاً نحو واشنطن، التي كانت – ولا تزال – الضامن العسكري والسياسي الأكبر لقسد. ومع تراجع الاهتمام الأميركي التدريجي بالملف السوري، تحاول قسد طمأنة واشنطن بأن انسحاب الدعم لا يعني انهياراً، بل تحوّلاً نحو الشرعية الوطنية.



لكن الواقع أكثر تعقيداً. المشكلة داخل قسد لا تتعلق فقط بالروابط التنظيمية مع الحزب، بل بالبنية المعرفية العميقة التي شكّلت خطابها على مدى عقدين، وهي ما وصفها ميشيل فوكو بـ”أنظمة إنتاج السلطة”. فطالما لم يُفكك هذا النظام الرمزي والفكري، فإن حلّ الحزب لن يُترجم إلى تفكيك فعلي لسلوكيات القوة داخل قسد.



في الميدان الواقع يقول ما لم تقله البيانات


وعلى الأرض، لا تزال قسد تحتفظ بكوادر قيادية محورية قادمة من قنديل، ارتبطت عضوياً بحزب العمال، ولا تبدو مستعدة للتخلي عن مشروعها التاريخي بسهولة. بالنسبة لهؤلاء، قرار الحل ليس نهاية مشروع، بل بداية مرحلة مقاومة جديدة بأدوات مختلفة. وتُشير تسريبات من داخل التنظيم إلى أن بعض هذه الكوادر ترى في الاتفاق مع دمشق “تنازلاً خطيراً” يصب في مصلحة دولة مركزية لا تؤمن، في جوهرها، بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي.



وهذا الانقسام الأيديولوجي يتجلى ميدانياً في تحركات عسكرية تحمل مؤشرات مقاومة صامتة. فمنذ مارس/آذار، رُصدت عمليات حفر أنفاق واسعة في الرقة والحسكة، بعضها تحت أحياء مدنية. وبرغم مزاعم أنها دفاعات ضد خلايا داعش، إلا أن نمطها وانتشارها يوحيان بتهيئة “بنية تحت الأرض” تستخدم لاحقاً لأغراض عسكرية أو أمنية داخلية، وربما للاحتماء من أي اندماج مفروض.



الأكثر دلالة، كان وصول تعزيزات من عناصر وقادة قادمين من قنديل إلى محيط حقلي العمر وكونيكو، بالتزامن مع انسحاب قوات التحالف الدولي. تلاها نشر قسد لقوة تقدر بنحو 2000 عنصر، في ما بدا كأنه إعادة توزيع للنفوذ لا تتماشى مع منطق التسوية، بل مع محاولة خلق “جيش داخل الجيش”، يحفظ امتدادات الحزب السابقة ويؤمّن نفوذها داخل بنية قسد، تحسّباً لانهيار الاتفاق مع دمشق أو انقلاب في موازين القوى.



هنا تحديداً يظهر ما وصفه أنطونيو غرامشي بـ”الأزمة العضوية”، حيث تنهار الهيمنة القديمة دون أن يولد بديل واضح، فتبرز قوى جديدة من الهامش، وتتفكك البنى التقليدية، وتدخل الحركة في مرحلة تحوّل غير مكتمل. قسد اليوم في صلب هذه اللحظة: القيادة السياسية تتجه نحو الحلول، والكوادر العقائدية تستعد للتمرد، والميدان مفتوح لكل الاحتمالات.



اتفاق دمشق: اندماج حقيقي أم استيعاب ناعم؟


في 10 آذار/مارس 2025، وُقّع اتفاق سياسي بين قوات سوريا الديمقراطية والرئيس السوري أحمد الشرع، ينص على دمج الهياكل العسكرية والإدارية لقسد ضمن مؤسسات الدولة، مقابل وقف لإطلاق النار، وضمانات عامة للاعتراف بالحقوق الكردية ضمن الإطار الوطني. غير أن الاتفاق، رغم صيغته التوافقية، ما زال غامضاً في تفاصيله الجوهرية: لا جدولاً زمنياً للتنفيذ، ولا حسماً في ملفات مثل السيطرة على الموارد النفطية أو شكل الحكم المحلي.



في ظل هذا الغموض، برزت قراءات متباينة داخل قسد نفسها. بعض الفصائل تنظر إلى الاتفاق كفرصة لتكريس الاعتراف، بينما ترى أخرى – خاصة من الكوادر المرتبطة بالحزب المنحل – أنه مجرد وسيلة لتفكيك قسد من الداخل، في ظل انحسار الدعم الأمريكي وانهيار الغطاء الإيديولوجي بعد حلّ حزب العمال الكردستاني.



وهنا يُطرح التحدي الحقيقي: فالاتفاق لن يكون مجدياً إذا بقي على مستوى “التفاوض التكتيكي” المؤقت، بل لا بد أن يتحول إلى صيغة شاملة قائمة على إدراك مشترك للمصالح، كما يُشير المنظّر الألماني يورغن هابرماس في مفهومه عن “التوافق التواصلي”. وبغير ذلك، فإن الشعور داخل قسد بأنها تُستدرج نحو “الاستيعاب الأمني” دون ضمانات واضحة قد يدفعها إلى التراجع، أو الانقسام، أو حتى الدخول في مواجهة جديدة، لا سيما مع تصاعد الضغوط التركية، وفقدان الثقة في نوايا دمشق تجاه الحكم الذاتي، وفي حيرتها الحالية هي تماطل في التنفيذ في محاولة منها لكسب المزيد من الوقت.



ما بعد حلّ حزب العمال: دروس “الهيئة” والهوية العالقة


لا يمكن فهم مستقبل “قسد” بعد إعلان حلّ حزب العمال الكردستاني دون استحضار تجربة موازية قريبة، هي تجربة هيئة تحرير الشام عندما أعلن زعيمها، أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني”، عام 2016 فكّ الارتباط بتنظيم القاعدة. حينها، سعى الشرع إلى تقديم نفسه كلاعب سياسي محلي أكثر براغماتية، لكن خطوته قوبلت برفض عنيف من داخل الهيئة نفسها، وانشقاقات قادها شرعيون متشددون اعتبروا الخطوة خيانة للمسار الجهادي. سرعان ما تمخضت هذه الأزمة عن ولادة تنظيم “حراس الدين”، الذي أعاد إحياء الخطاب الجهادي الكلاسيكي، وسعى لإفشال أي محاولة للتهدئة أو الاندماج السياسي.



هذه التجربة ليست بعيدة عن المشهد الكردي اليوم. حلّ حزب العمال الكردستاني لا يعني بالضرورة نهاية تأثيره داخل “قسد”، بل قد يكون لحظة انكشاف لانقسام داخلي عميق حول الهوية والولاء والخطاب. فبينما تسعى القيادة السياسية ممثلة بمظلوم عبدي إلى التكيّف مع الواقع الجديد والانخراط في الدولة السورية، تبقى كوادر عديدة – لا سيما القادمة من قنديل – غير مستعدة للتخلي عن سردية “التحرر الثوري” أو التسليم بالاندماج دون شروط.


في زمن ما بعد الحركات الثورية، لا يكفي أن تتحوّل الجماعة المسلحة إلى ذراع داخل الدولة، بل يجب أن تعيد صياغة نفسها كفاعل سياسي يتمتع بشرعية وطنية. التحدي ليس في تسليم السلاح فحسب، بل في إعادة بناء سردية سياسية تُقنع المجتمع والدولة بجدوى وجود هذا الفاعل ضمن بنية الحكم الجديدة. وهنا تبرز أهمية ما يسميه بنديكت أندرسون “تخيّل الجماعة السياسية”، ليس فقط من حيث الهوية الثقافية، بل من حيث التمثيل والمشاركة في صناعة القرار. فإذا لم تنجح قسد في إعادة تخيّل نفسها بهذا المعنى، فإنها ستبقى قوة قائمة على إرث مسلح لا على شرعية وطنية مستدامة.



بين الاندماج والتشظي: مستقبل قسد على مفترق حاسم


في ظل التحولات المتسارعة، تبدو “قسد” وكأنها تسير على حبلٍ مشدود، تحاول التوازن بين واقعية التحوّل السياسي وميراثها الثوري الثقيل. فإن نجحت قيادتها في احتواء التباينات الداخلية، ومضت بخطوات محسوبة نحو الاندماج التدريجي في الدولة السورية، مع الحفاظ على هامش من الإدارة الذاتية، فربما تعيد إنتاج نفسها كفاعل شرعي ضمن سوريا الجديدة، بعيداً عن التصنيفات الدولية والمحلية التي طاردتها لسنوات.



لكن هذا السيناريو لا يخفي مخاطره. فالخلافات قد لا تُحل، بل تنفجر في شكل انقسامات فعلية، تُنتج كيانات عسكرية محلية متشددة – على غرار تجربة “حراس الدين” – ترفض الاندماج وتعتبر أي تقارب مع دمشق خيانة لـ”روح المشروع الكردي”. في هذه الحالة، قد تشهد مناطق مثل ريف الحسكة وعين العرب كوباني تمرّداً منخفض الحدة، تقوده مجموعات مؤدلجة تعتقد أن التنازلات ليست سوى بداية للانهيار.



وإذا ما انهارت مفاوضات قسد مع دمشق كلياً، سواء بفعل تصلب الحكومة أو تراجع الدعم الأميركي، فمن المرجح أن تعود قسد إلى إدارة مناطقها كأمر واقع. هنا، لن يكون التصعيد مجرد احتمال، بل مساراً متوقعاً، مع دخول الجيش السوري، وعودة الأتراك، وربما انخراط لاعبين إقليميين آخرين يسعون لتقويض أي تفاهم.




الدرس الذي تقدّمه إدلب ما بعد القاعدة لا يزال قائماً: تفكيك التنظيمات الأيديولوجية لا يُنجز ببيانات فوقية، بل بتفكيك هياكلها الداخلية وبناء مشروع بديل جامع. وإذا فشلت قسد في صياغة هذا البديل، فإن إعلان حل الحزب ونفى ارتباطها به قد لا ينتج تسوية، بل يولّد أزمة أعمق وانقساماً أكثر خطورة من كل ما سبق.



ختاماً: “حل الحزب” ليس مفتاحاً للسلم… بل مرآة للأزمة


ما يجري في الشرق السوري اليوم لا يُشبه لحظة انقشاع أزمة، بل أقرب إلى تحوّل معلق بين مشروع يتآكل من داخله، ودولة تحاول فرض هيبتها بتسويات غير مكتملة. إعلان حل حزب العمال الكردستاني لم يغلق ملفاً، بل فتح آخر، أكثر تعقيداً: ملف هوية قسد، ودورها، ومستقبلها في الخارطة السورية الجديدة.



على الورق، قد تبدو قسد مستعدة للاندماج في مؤسسات الدولة، لكنها على الأرض لا تزال تتحرك بمنطق التوجس والتأهب والمماطلة، كما لو أنها تدير عملية تكيّف قسري لا تؤمن به كلياً. في المقابل، تسعى دمشق، مدعومة بزخم سياسي إقليمي ودولي، إلى إعادة هندسة الخارطة الأمنية بمقاربة “احتواء خشن”، تُذكّرنا بأن أخطر لحظة في عمر أي تنظيم ليست حين يواجه أعداءه، بل حين يحاول إعادة تعريف نفسه داخل منظومة أكبر.



الانقسامات التي تشهدها قسد اليوم ليست عرضاً طارئاً، بل تجسيد لما يمكن تسميته “صراع ما بعد الحزب”؛ حيث تتنازع الداخل الكردي رؤيتان: الأولى واقعية تسعى للبقاء عبر التسوية، والثانية ثورية ترفض الانصهار دون ضمانات واضحة. وإذا لم تُقدم الدولة السورية تصوراً يراعي هذا الانقسام، فالمسار مرشح للانفجار.



ومع هذا، لا يمكن تجاهل أن كل هذه التحولات تجري في ظل تراجع أمريكي تدريجي، ترك فراغاً واضحاً في معادلة الضبط السياسي والعسكري في شرق سوريا. الولايات المتحدة التي كانت لعقد من الزمن الرافعة الرئيسية لقسد – عسكرياً ودبلوماسياً – باتت اليوم تميل إلى إعادة التموضع، أو حتى الانسحاب الصامت، في ظل أولويات استراتيجية تتجه نحو دمشق، هذا التآكل في الغطاء الأميركي جعل قسد أكثر هشاشة أمام ضغط دمشق، وأكثر قابلية للتفكك في حال غاب الراعي الدولي الذي شكّل مظلتها في مواجهة دمشق وأنقرة على السواء.



ما لم تُفكَّك البُنى الصلبة المرتبطة بالحزب داخل قسد، وما لم يُعاد إنتاج “الهوية السياسية” ضمن إطار وطني شامل، فإن الحديث عن اندماج سيبقى أقرب إلى الوهم. وهنا يكمن الخطر: أن يتحول ما أُعلن كنهاية لحقبة، إلى بداية انقسام داخلي جديد، تنتقل فيه قسد من قوة مسيطرة إلى جسد ممزق تتنازعه الأوهام والمخاوف.

شارك

مقالات ذات صلة