تأملات

عن (الله) في قلبي

مايو 23, 2025

عن (الله) في قلبي

أستطيع أن أتذكّر أول أسئلةٍ وجوديّة ألحَّت عليّ بينما كنتُ في عامي الأخير في الجامعة وكانت جلّها أسئلة تدور حول القدر، والحقيقة أننّي لم أفرض أيّ حصارٍ على أسئلتي تلك، بل أطلقتُ لها العنان، وكلّما سألتُ ربّي، كلّما أجانبي

وهنا أفرّقُ بين نقطتين مهمتين، فهنالك فرق كبير بين أن أسأل لأعرف، وبين أن أسأل لأنكر، لذلك النيّة وراء السؤال (مهمة جداً) فهي التي تفتح لك أبواب الإدراك الظاهري والباطني، وتلجُ بكَ إلى مدارك العلم اللدني.

كانت نيّتي دائماً من كلّ سؤالٍ هي (أريدُ أن أعرفكَ أكثر يا الله)!

أخذتني أسئلة:

من أنتَ يا ربّي؟ وكيف يعمل تيروميتر القدر في حياتي؟ ما هي تردداته وكيف أفهم ذبذباته ؟ ماذا تريدني أن أفعل على الأرض؟

كنت أنهي محاضراتي في اللغة العربية ثم أتوجه مسرعةً إلى المكتبة المركزية وسط الجامعة، أصعد درجها بشغف، أتجاوز الطابق الثالث الذي يحوي تخصصي، لأستقرّ في الطابق الرابع ( قسم الشريعة والتفسير ) حسبما أتذكر كنت أستغرق في قراءة التفسير للشعراوي وكتب الإمام الغزالي، ولم أكن أنتبه للوقت، حتّى يأتي أمين المكتبة فيقول لي لقد تأخر الوقت، وعلينا أن نغلق، حينها أودّع كل تلك الكتب على الرفوف وأنتظر قدوم اليوم التالي لاستكمال القراءة، كلّما قرأت عبارة أدهشتني أو تفسيراً بديعاً، قلت في قلبي ( شكراً يا الله لأنّك تجعلني أتمتع بالتعرف عليك)

ولوهلة فكرت، كيف تأخذني قدماي إلى قسم التفسير في المكتبة، مع أنني منذ سنوات في الجامعة ولم يسبق لي الجلوس في جناح المكتبة هذا، وأنني من المفترض أن أذهب لإنجاز أبحاثي في أدب اللغة العربية وهو تخصصي الجامعي، فتذكرتُ (لقد طلبتُ من الله عزّوجلّ أن يعرّفني عليه، لذلك أنا هنا الآن)

منذ اللحظة الأولى التي تسأل بها الله عز وجلّ صادقاً تبدأ جوارحك تتحرك بإرادة الله ومراده، فتتخلّى نفسك عن إدارة جوارحك، وتصبح تسير بإرادة الله بحيث تعيش الدهشة بكل معنى الكلمة.

كيف هذا؟

يعني يصبح سماعك لآية قرآنية أثناء صعودك في سيارة الأجرة إشارة، تصبح قراءة لافتة لمعنى معين ظهر أمامك في الطريق إشارة، تصبح مكالمة هاتفية فجائية إشارة، أقصد أنّ كل شيء في حياتك سواء كان مشهداً بصرياً أو سمعياً أو حتّى إلهاماً في قلبك يتحول إلى رسالة إلهية، وتدرك فيما بعد أنّ تلك الرسائل تصلك منذ زمنٍ طويل، لكنّك لم تفعّل خاصيّة التلقّي، فكانت تظلّ مخفيّة دون أن يصلك إشعار وصولها، حينما تبدأ تسأل وتبحث عن الله بصدق في كل تفاصيل حياتك تتوالى عليك الإشارات، وربّما أيضاً تصبح أنت كلّك عبارة عن إشارة بالنسبة لمحيطك، حديثك يصبح ملهما، وكذلك حضورك، جلوسك، ضحكتك، نظرة عينك، خطوتك، الفكرة التي تخطر على بالك، لماذا؟ لأنّك فعّلت خاصيّة التلقّي من الله عزّوجلّ، ولأنّك تستشعر اتصالك العالي به سبحانه وتعالى، فكأنك فعلا تعيش المعاني التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم للغلام في حديثه ( يا غلام، إنّي أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الله الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإنْ اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف) هذا الحديث الشريف كل حرفٍ فيه سرّ عظيم، ومورد نور لا ينفد، ولأنها كلماتٌ علّمها لنا من لا ينطق عن الهوى، فقد حوت جوامع الكلم، وخواتمه.

تقوم هذه الكلمات على ثلاثة نقاط رئيسية ( الحفظ ، السؤال ، الاستعانة)

يعني نحن في علاقاتنا الإنسانية إذا أحببنا شخصاً نراعيه في قلوبنا ونحفظ مكانه، بمعنى لا نسمح لأحد أن يتحدث عنه بسوء، لا نفعل شيئاً يكرهه، نستشعر مكانته في قلبنا حتى في غيابه، فكيف وإنْ كان الله عزّ وجلّ؟

لذلك أن تراعي الله في قلبك وتستشعر وجوده معك دائماً هو أصل العلاقة بين الربّ والعبد، هذا الباب العظيم ستلج منه إلى السؤال والسؤال هنا متسع جداً، والطلب هنا يشمل كل ما هو معلن وخفي، وكل ما هو مادي وروحي، يعني كل سؤال يخطر في بالك تستطيع أن تسأله لله، ما الذي يمنعك عن ذلك؟ لقد أرسى الإسلام علاقة مذهلة بين العبد والله عز وجل، لقد نزع الحواجز وأطلق القلب يسبّح تحت عرش الرحمن، لقد قال له اسأل فهو يسمعه دائماً بل ( هو أقرب من حبل الوريد) لذلك كانت هنالك صلاة الاستخارة في إطار أيضاً أنني أسأل الله عزّوجلّ وأنتظر الإجابة.

الجميل حقاً أنك تستطيع قراءة الإجابة الربّانية، وهذا اسمه ( الفهم ) بمعنى أن أفهم أنّ هذا الموقف الذي حصل معي كانت يحمل إجابة على السؤال الذي طرحته لله، هذه الخسارة هذا الفوز، هذا العطاء، هذا الفقد، هذا التعب، هذا الفرح وإلخ، لا يمكن أن تسأل الله فلا يجيبك، فهو القائل (اذكروني أذكركم) إذا ذكرته ذكرك، وإذا سألته أجابك، وإذا ناجيته فرح بك، وإذا تبت تاب عليك، (العلاقة بين الله وعز وجلّ) على عظمة الله وجلاله وتقديسه، إلا أنّه دائماً في خطابه لنا يشعرنا بأنها علاقة تبادلية، وكأن الله عز وجل يقول لنا (تستطيع يا عبدي أن تحبني، وأن ترضى عني أيضاً) في إطار ما ورد في القرآن الكريم (يحبهم ويحبونه)، (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، ثم ينقلنا النبي صلى الله عليه وسلم من مقام السؤال إلى مقام الاستعانة، والاستعانة فيها قرب أعلى من السؤال، لأنّ الاستعانة في اللغة أن تستعين بالشيء لتحصل على الإعانة أي ( العون)، وأن يعينك الله يعني أن يسخر لك،  يسخر لك المعرفة ويسخر لك المواد، فيكون عوناً محسوساً تكاد تلمس تفاصيل تلك الإعانة بيديك، لشدّة قربها ووضوحها، ليضع في نهاية الحديث النقاط على الحروف في مسألة القدر، حبره جف وأقلامه مرفوعة، وأنّ نفعك وضرك هو بيد الله وحده، فلماذا تسير في الدنيا قلقاً، مضطرباً؟ لو كنت اتبعت كلمات النبيّ صلى الله عليه وسلم ووَقَرَت في قلبك فإنّك لن تسير في الدنيا إلا واثق الخطى منشرح الصدر، فقط عليك أن تتحقق بالمقامات الثلاثة التي هي عليك (حفظ الله، سؤال الله، الاستعانة بالله) ودون ذلك أن تترك لله عز وجل أن يرسم طريقك ومساراتك في الحياة، لأنّه لا أحد سيعرف أين يجب أن تسير وكيف يجب أن تسير بما فيه خير لك سوى الله عز وجلّ.

 

لذلك فهذا الحديث الشريف هو أروع ما يمكن أن تتعلم فيه حقيقة العلاقة مع الله عزوجلّ وتدرك من خلالها السكينة والرضا عن كل دقيقة قدّرها الله عليك بعلمه فيك، وهو لا يقدّر إلا خيراً مطلقاً

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

شارك

مقالات ذات صلة