أدب
غادر السفير الهولندي العراق في 24 ديسمبر 1990، لكنه سرعان ما تلقَّى توبيخًا شديدًا من وزارة الخارجية. كانت النيَّة أن يذهب في إجازة لمدة أسبوعين إلى سويسرا، على أن يعود إلى بغداد قبل 15 يناير 1991، لكنه تلقَّى اتصالًا من رئيس قسم شؤون الموظفين إد فان بونج، يخبره أنه لن يعود إلى العراق. يبدو غريبًا على الدبلوماسي أن يغادر بلدًا وهو يعتقد أنه سيعود إليه بعد أسبوعين، ثم يكتشف أنه لن يعود إليه أبدًا، خصوصًا إذا كان بلدًا يهتمُّ به بشدة ويتابع أوضاعه. وكان قد مَرَّ فيه بتجارِب ثرية. أغلقَت هولندا سفارتها، فقد طالبت هولندا العراق بالانسحاب من الكويت في موعد أقصاه 15 يناير 1991، وفي 17 يناير بدأت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة هجومها على القوات العراقية في الكويت.
توبيخ من الخارجية الهولندية
بعد أن تولى نيقولاوس فان دام منصبه الجديد سفيرًا في القاهرة عام 1991، أجرى مقابلة مع جوس فان نورد من صحيفة “دي تليغراف”، حذَّر نيقولاوس خلالها من العواقب الوخيمة التي سيُعاني منها الشعب العراقي بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة. كانت العقوبات موجَّهة ضد نظام صدَّام حسين، لكن في الواقع كان الشعب البريء هو الذي عانى منها بشكل كبير. العقوبات كانت ستؤدي إلى وفاة عديد من الأشخاص، بما في ذلك كثير من الأطفال، خصوصًا بسبب نقص الغذاء والأدوية. يوضح السفير الهولندي أنه في الغرب قُدِّم الدعم إلى الأكراد في العراق، ولكن لم يكُن للسكَّان العرب دعم مماثل.
تلقَّى فان دام توبيخًا شديدًا من وزارة الخارجية، نقَله إليه الأمين العامُّ آنذاك برنارد بوت، الذي أصبح لاحقًا وزير الخارجية، فقد انزعج مما وردَ في صحيفة “دي تليغراف”، فوفقًا لقواعد وزارة الخارجية الهولندية لم يكُن ينبغي للسفير فان دام إجراء هذه المقابلة دون الحصول على إذن مُسبَق، وكان من الأفضل له من الناحية الرسمية أن يصمت. تصريحات فان دام كانت تتعارض مع سياسة الدول الاثنتَي عشْرةَ الأعضاء في المجموعة الأوروبية، وبالتالي مع سياسة هولندا. أشار بوت نيابةً عن الوزير فان دن بروك إلى أنَّ السلطات العراقية قد تحصل على انطباع خاطئ حول تغيُّر محتمل في الموقف الهولندي.
لم يندم السفير على التصريح، لأنه من حيث المضمون كانت تصريحاته على حقٍّ في ذلك الوقت، فقد سُئلت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت عمَّا إذا كان ثَمَن الحصار يستحقُّ ذلك، وكانت إجابتها مستفزة للجمهور! في النهاية، تُوُفِّي أكثر من نصف مليون طفل، وهو عدد أكبر من ضحايا القصف على هيروشيما. أجابت أولبرايت: “نعتقد أنه يستحقُّ ذلك”. لكنها اعترفت لاحقًا بأن هذا القول كان خطأً فادحًا. حدث الاعتراف بالأخطاء في ما بعدُ عدَّة مرات، مثلما فعل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بشأن الغزو البريطاني-الأمريكي للعراق في عام 2003، بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي تبيَّن لاحقًا عدم وجودها. ولكن الأذى كان قد وقع بالفعل، وأولئك الذين كانوا مسؤولين جزئيًّا عنه تمكَّنوا من البقاء دون ملاحقة قانونية. هكذا عبَّر السفير نيقولاوس فان دام عن غضب الخارجية الهولندية من تصريحه عن رفض الحصار العراقي، لكنَّه تلقَّى توبيخًا من وزارته.
السفير في مصر خلال عهد حسني مبارك
نُقِل السفير نيقولاوس فان دام إلى القاهرة، وقالت له وزارة الخارجية: “يجب أن تعتبر هذا تشريفًا”. وبالفعل، اعتبر السفير ذلك شرفًا عظيمًا، فقد كانت القاهرة بالنسبة إليه إحدى أجمل الوجهات العربية التي كان يحلم بالعمل فيها، وبالتالي كانت فرصة ذهبية له!
في 4 مايو 1991، قدَّم نيقولاوس أوراق اعتماده إلى الرئيس حسني مبارك. ويقدِّم السفير سردًا حول أنشطة الهولنديين في مصر، مثل عِلْم المصريات، والآثار، ودراسة اللهجات العربية. ويحكي لنا عن زيارة رودولف دي يونغ، وقد كان يعمل على أطروحة حول اللهجات البدوية في سيناء، وقد كتب له السفير خِطابَ دعمٍ إلى أحد المحافظين في سيناء للحصول على الإذن اللازم. ورغم حصول عالِم اللهجات على التصريح والإذن بشرط ألَّا يتواصل مع السكان المحليين، وهو شرط صعب يحرمه مِن أهمِّ ما جاء مِن أجْلِه وهو دراسة اللهجات المحلية، فقد سُمِح له بالاطلاع على مكتبة مُتحفٍ فولكلوريٍّ تحتوي أربعين كتابًا، تبرعت بها هولندا لهذه المكتبة. وكانت السلطات المصرية تنظر بعين الريبة إلى هذه الأبحاث، بحيث يقولون عنها: “فايدتها إيه؟”، إذ اعتقدوا أنَّ ذلك له صِلَة بالتجسس أو شيء مُشابِه.
ويشتكي السفير من قضية عدم التزام المصريين المواعيد، والاعتذارات المفاجئة من وزراء ومسؤولين مهمِّين، ويحكي طُرفة عن زيارته لفتحي عرفات، شقيق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان يعيش في القاهرة، وكان لديه صورةٌ مُعلَّقةٌ على الحائط تجمعه بياسر عرفات، فكان السفير يمزح قائلًا: “نحن نعرفك، ولكن مَن هذا الرجل الذي بجانبك؟”.
ويحكي السفير الهولندي عن جولاته في مصر، وسفره بالطائرة إلى أسوان، وإقامته في فندق “كاتركت” الفاخر، حيث كتبَت الروائية أغاثا كريستي روايتها “موت فوق النيل”، بل إنه حصل على جناح أغاثا كريستي الضخم المطلِّ على النيل، وهي تجرِبة تمتَّع فيها بالفخامة، لم يحظَ بها من قبل.
منع إعادة سوريٍّ قَسْرًا
يَقُصُّ علينا السفير قصة عن صديقه السوري والمُدافع عن حقوق الإنسان، هيثم المالح، إذ طلب التدخل العاجل لمنع إعادة سوريٍّ مشتبهٍ بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين السورية قَسْرًا إلى سوريا من قِبل السلطات المصرية. كان من المؤكد أنه سيواجه عقوبة شديدة، إن لم تكُن الإعدام، نظرًا إلى أنَّ عقوبة الإعدام كانت لا تزال مفروضة على الانتماء إلى الإخوان المسلمين. في ذلك الوقت كان السفير قد تعرَّف إلى هيثم المالح منذ سنوات، من خلال زياراته السابقة له ولمنظمته الحقوقية في دمشق. وبفضل الجهود التي بذلها توين فان دونغن، نائب رئيس البعثة في السفارة الهولندية بالقاهرة، الذي كان مُلِمًّا جيدًا بالموضوع، استطاع تأمين لجوء لهذا السوري في هولندا، رغم أن العملية لم تكُن سهلة.
نشر كتاب نيقولاوس فان دام عن الطائفية في سوريا في مكتبة مدبولي
نشر السفير الهولندي عام 1995 أول طبعة عربية من كتابه عن سوريا في القاهرة. كان في سوريا عديد من الترجمات غير المرخصة المتداولة هناك، ولكن لم يكُن أيٌّ منها مُعتمَدًا أو مُوافَقًا عليه مِن السفير بالطبع. قد يَعتبر بعضُ الكتَّاب أنَّ قرصنة كُتبهم دليل على شعبيَّتهم، لكن ذلك يشكِّل ضررًا كبيرًا على الناشر في رأي نيقولاوس فان دام. صحَّح السفير الترجمات الموجودة، وأضاف فصولًا جديدة، وحصل على مساعدة قيِّمة مِن مترجِمة في السفارة، هي منى شنودة، وفي المسائل النحْوية المعقَّدة كان يستشير العالِم رودولف دي يونغ. وقُدِّمَت الترجمة إلى دار نشر معروفة للنظر في إمكانية نشرها، وأبدَوا اهتمامًا، ولكن بشرط أن يخضع الكتاب للرقابة، وهو ما رفضه السفير.
بعد ذلك، زار السفير مكتبة مدبولي في القاهرة وقابل مديرها، في ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، واتُّفق على النشر خلال ربع ساعة فقط! ثم نَفِدَت الطبعة الأولى من الكتاب بسرعة، وصدَرَت طبعة ثانية موسَّعة خلال بضعة أشهُر، شملَت بعضَ التحديثات، ووصل الكتاب إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في صحيفة “الشرق الأوسط”، وكَتَبَ عنه عديدٌ من الصُّحف الأخرى، بما في ذلك بعض الصُّحف في لبنان.
الشيء اللافت للنظر حول مؤسِّس الدار، الحاج مدبولي، من وجهة نظر السفير هو أنه كان معروفًا بأنه أُمِّيٌّ أو شِبْهُ أُمِّيٍّ، وقد بدأ ببيع الصحف في كُشك بميدان طلعت حرب قبل أن يؤسِّس مكتبته الشهيرة في نفس المكان. قد يبدو أنَّ الأُمِّيَّة أو شِبْه الأُمِّيَّة صفة غير معتادة لناشر مرموق، لكن مدبولي كان يتمتع بمهارات تجارية استثنائية، وكان لديه فريق عمل كفء. وكأيِّ رَجُل أعمال جيِّد حمل معه حقائب مليئة بنُسَخٍ مِن كتابه إلى لبنان، وبالنسبة إلى أيِّ كاتب فإنَّ الأهمَّ هو أن يُقرأ كتابه. وكان مدبولي الخيار المثالي لتوزيع فعَّال، لذلك لا نتعجَّب مِن نشر السفير رحلاته الدبلوماسية حاليًّا مع مدبولي، فبينَهُ وبينَ دار النشر تعارُف قديم منذ منتصف التسعينيات.
ما ساعد في توزيع الكتاب بشكل أكبر هو أن صحفيًّا سوريًّا في دمشق نشر مقالًا لاذعًا ضدَّ الكتاب في صحيفة “السفير” اللبنانية، التي كانت تُباع في دمشق رغم أن الكتاب كان محظورًا هناك. أثار هذا المقال اهتمام عديد من القرَّاء الذين أصبحوا يرغبون في قراءة الكتاب بسبب هذا الهجوم.
فرديناند سميت، صديق وزميل السفير، الذي كان يعمل في دمشق في ذلك الوقت، هو مَن التقط الصورة التي ظهرت على غلاف الكتاب. وبما أن الهدف كان تصوير طبيعة النظام السوري، فقد التقط فرديناند صورًا للوحات إعلانية كبيرة وملصقات ونُصُب تذكارية للرئيس حافظ الأسد، وأحيانًا مع ابنه باسل، الذي كان في ذلك الوقت المرشَّح الأبرز لخلافة والده.
كانت تلك الصور تُعلَّق عادة في الثكنات العسكرية التابعة لوحدات النخبة في الجيش السوري، ولذلك لم يكُن من السهل التقاط الصور، لكن فرديناند كان يمتلك جرأة كبيرة ونجح في ذلك. وبعد خمس سنوات، في فبراير 2000، قُتل فرديناند مع اثنين من أصدقائه في أثناء رحلتهم المغامرة في صحراء مالي، وكانت جريمة سرقة لا صلة لها بالسياسة. وقضى السفير الهولندي خمس سنوات في القاهرة، واعتبرها سنواتٍ فيها كثير من الدفء والصداقة.
وعندما قُدِّم السفير الهولندي في أحد الاجتماعات مع وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام، قال له الوزير: “هل أنت الدكتور فان دام صاحب كتاب {الصراع على السلطة} في سوريا؟”. ويبدو أن أصداء الكتاب وصلت إلى عديد من وزراء الخارجية العرب.
وفي مذكراته يحكي الدبلوماسي نيقولاوس فان دام عن أطروحته الأكاديمية عن البعث في سوريا، وعن تعيينه مبعوثًا لهولندا في الملف السوري بعد الثورة السورية. وفي أحد الاجتماعات في أضنة مع أفراد من الجيش السوري الحر، نصحه أحدهم بقراءة كتاب “الصراع على السلطة”، وأراه النسخة الإلكترونية على هاتفه. لم يكُن السوري يعلم أنه يتحدث مع المؤلِّف، وأبدى دهشته بهذه الصدفة ولقاء المؤلِّف.
السفير الهولندي في تركيا
انتقل السفير الهولندي من القاهرة إلى أنقرة، وصرَّح ذات مرة عن الأكراد ولم تُعجِب التصريحات أنقرة. وكانت المفاجأة الكبيرة عندما أدرك السفير أن هولندا تَعتبر تركيا أكثر أهمية من مصر، التي يمكن تصنيفها إحدى أهمِّ دول الشرق الأوسط. كان ذلك بسبب أن العلاقات الثنائية مع تركيا كانت تؤثِّر بشكل مباشر في هولندا، في حين أن القضايا المرتبطة بمصر -رغم أهميتها- كانت تُعتبر بالنسبة إلى أوروبا أمورًا جانبية لا تمسُّ مصالحهم بشكل مباشر.
لمس السفير هذا الفارق بوضوح من خلال عدد المكالمات التي كان يتلقاها في أنقرة من وزير الخارجية الهولندي آنذاك، هانس فان ميرلو، ففي القاهرة كان أحيانًا يتلقى مكالمات مباشرة من أحد الوزراء حول مسائل مشاريع التنمية، لكن لم يسبق له أن تلقَّى اتصالًا من وزير الخارجية، فقد كانت هذه الأمور تُناقَش عادةً عبر المراسلات المكتوبة. والسبب أن عدد الأتراك كان أكبر من عدد المصريين في هولندا، وكانت الجالية التركية تؤدي دورًا سياسيًّا حسَّاسًا.
ويُنبِّهنا السفير إلى أنَّ المحادثات بين سفراء الاتحاد الأوروبي والوزراء الأتراك تتمحور غالبًا حول موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكن هذا الجدل انتهى عندما انتقدت وزيرة الخارجية التركية آنذاك، تكن تشيلر، الاتحاد الأوروبي ووصفته بأنه نادٍ مسيحيٌّ. ومع تصاعد النفوذ الإسلامي في تركيا، تضاءلت فرص انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أكثر.
ولاحظ السفير أنَّ في مصر كانوا يفتخرون بجذورهم العثمانية والتركية، لكن في تركيا كانوا يتملَّصون من أيِّ أصول عربية، فقد أخبرت سيدة تركية السفير خلال عشاء في أنقرة أنَّ والدها كان في بغداد، وعندما سألها السفير إذا كانت من أصلٍ عربيٍّ أجابت بشكل قاطع: “ليس لي قطرة دم عربية!”. وهذا دليل على عنصرية تغزو أحيانًا الطبقة التركية ناحية العرب. وحتى عندما قال لهم السفير إنَّ الكلمات التي تبدأ بحرف “م” هي من أصل عربي، لم يقابل هذا النقاش بترحاب كبير من ناحية الأتراك. وفي ديسمبر 1998 انتقل السفير من تركيا إلى السفارة الهولندية في ألمانيا.
تستمرُّ مذكرات السفير الهولندي في تقديم حصاد مُثمِر عن أدواره الدبلوماسية في ألمانيا، وهو فصل ممتع يُدخِلنا في تفاصيل الخارجية والمصالح الهولندية مع ألمانيا، وبعد ذلك تمثيله هولندا في إندونيسيا، ويفتح الجراح القديمة بين الاستعمار الهولندي لإندونيسيا، وهو ما فهمه من خلال عمله هناك.
وتبدو مواقف السفير مُتفهِّمة لطبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي، ويقدِّم قراءة عن المشهد السوري كما كان شاهدًا عليه عندما عُيِّن مبعوثًا لهولندا.
حياة السفير مثال على طبيعة الحياة الدبلوماسية من الانتقال من بلد إلى آخر، وتعلُّم عديد من اللغات، فيبدو أن الرجل لديه موهبة تعلُّم اللغات، فقد كان يبدأ في تعلُّم لغة البلد التي يعمل بها.
إنها رحلة نُطِلُّ مِن خلالها على طبيعة أدوار وزارة الخارجية حول العالم.