Blog

أطفالٌ بلا طفولة!

أطفالٌ بلا طفولة!

مأكلٌ وملبسٌ وألعاب وأمور غريبة، لكنّها رغم غرابتها تبدو مألوفة..

هي تلكَ الأشياء الّتي يهتمّ بها كلّ طفلٍ ترعرع في بيتٍ إسمنتيٍّ حقيقي، وأبوابٍ خشبيّة متينة، شبيهة بمتانة الذكريات الّتي تُحاكُ بكلّ حبٍّ وسعادة. في تفاصيلها الصغيرة تتكوّن الطفولة، وتُنسج الأحلام، وتُزرع بذور الأمل في النفوس الغضّة.

وبعد ذلك ينضج الطفل في كنف التربية الحديثة، فيختار ما يريد ويتشارك مع أصدقائه ما يحب، لئلّا يكون على نفسيته تأثير سلبيّ، فيغوص في بحر الكآبة وعدم الرضى. وكما يحبّ الغرب ويسعى دائماً إلى أن تكون مراعاة الطفل هي الأهم، باتصالٍ واحد مثلاً يمكن للطفل أن يكسب استقلاليته باكرًا، فيهجر أهله، ويكبر بين جدران الدولة والانفتاح.


لكن ماذا عن ذاك الطفل الذي لم يجد جدراناً؟ لم يجد سريرًا ولا لعبًا، ولا حتى سقفًا يحميه من قصفٍ عشوائيّ لا يفرّق بين صغير وكبير؟

الغرب ذاته الذي يدّعي حماية الطفولة، هو من لعب الدور كاملاً لسلب الطمأنينة من أفئدة أطفال غزّة، وحاصرهم داخل جدران من قماش وأبواب من قش. حاصروهم مع أشلاء من يحبّون، وتركوهم لا يعرفون من الحياة سوى الألم والرماد والصمت الموجع.


العالم أجمع يرى الطفل في غزّة وهو يتحسّس ما تبقّى من أهله. نراه وهو يتساءل: أهذا كلّ شيء؟ هذه الحياة الّتي نحلم بها كأطفال؟ أم أنها مُنِحت للجميع واستثنتنا؟ أكلّ طفلٍ في العالم باستطاعته أن يحمل أشلاء والده، الذي كان يراه يوماً ذلك الخارق الذي سيستند عليه ما تبقّى من عمره؟ أللطفولة معنىً آخر أم أنّ غزّة لا طفولة فيها؟

وإن لم يُقتل الطفل في غزّة بصاروخ من يُعرفون بأصحاب “الأفئدة الرحيمة”، أو من الجوع.. سيُقتل حتماً بسلاحٍ نفسيّ يلاحقه كيفما دار واستقر. سلاحٌ فتّاك، يفتكُ بقلبه مستعيناً بذكرياته التي يحبّ، ويقارنها بما حلّ به. فيخلق عنده اضطراب دائم، أو كما يُقال له طبّيًا “اضطراب ما بعد الصدمة”، الصدمة التي جعلته يصارع للبقاء، ويمشي دون أن يعرف إلى أين؟ ومع من؟ ومتى ينتهي كلّ هذا الشقاء والعناء؟ وهل سيبقى حيًّا إذا انتهى؟ أم ستباغته الذاكرة وتقتله بينما يحاول أن يحلم ببعضٍ من عائلة، بحفنة من شالِ جدّة، أو حتى دميةٍ تسعفه للبقاء.


طفل غزّة لا يطلب الكثير، لا يريد تكنولوجيا ولا ألعابًا ذكية، ولا مدارس متطورة بقدر ما يحلم بلحظة أمان، بقدح من الشاي مع والدته، بأخ يلعب معه، بسرير يحضنه في المساء.

كلّ ما يتمنّاه هو أن تمرّ الليلة بسلام، ألا يصحو على صوت قصف أو انهيار. أن يشعر بأن حياته لها معنى، ولو كان بسيطًا، لكنه حقيقي.


هذه غزّة، يتهالكُ جسد الطفل فيها، وتتهاوى أطرافه مع كلّ منزلٍ يسقط، بينما يحاول الغرب بأقصى جهده أن يسيطر على الأسرة بكلّ مكنوناتها، فيفصل بقوانينه الطفل عن والديه. وبذلك لن تتبدّد الغُمّة عن الأمّة إلا إذا انطلقت التربية الحديثة ومفاهيمها من غزّة، من بين أنامل أمهاتها الثكلى، وأطفالها الجوعى، وآباؤها الأباة.

فكلّ ما دون غزّة… دون.

شارك

مقالات ذات صلة