مشاركات سوريا
فرضت مجريات الحرب العالمية الثانية سياقاً سياسياً مختلفاً للشرق الأوسط، فأدى دخول الولايات المتحدة الأمريكية معترك الحرب وعقائد٬ دوراً حاسماً في انحسار ذلك النمط السياسي في التعامل بين البلدان، ومع نهاية الحرب بدأت الجيوش التي كانت موجودة في المنطقة العربية تتحرك متحضرةً للخروج.
وقد كانت بريطانيا أكثر حرصاً في تجربتها مع دول المنطقة التي انتدبتها٬ فحين بدأت بسحب جيوشها من المنطقة٬ كانت قد وقعت مسبقاً معاهدات مع الدول المنتدَبة تنظم علاقاتهم المستقبلية معها٬ فوقعت معاهدة لندن مع الأردن عام 1946، كما وقعت اتفاقاً آخر مع حكومة نوري السعيد في العراق عام 1933، ومعاهدة أخرى مع مصر على نحو متزامن تقريباً مع اتفاقية العراق.
منحت هذه الاتفاقيات بريطانيا نفوذاً كبيراً في الدول الملكية الثلاث يتضمن قواعد عسكرية لها٬ وتفضيلاً اقتصادياً ومزايا أخرى عديدة، بمقابل هذا الأداء البريطاني٬ كان هناك فشل فرنسي ذريع لتجربة الانتداب التي خاضتها في سوريا ولبنان، فقد خلفت وراءها بلدين مقسومين وأقليات مذهبية وعرقية غير محددة الملامح أو الشكل السياسي وغير ذلك٬ بالإضافة إلى أنها خرجت شبه مطرودة من المنطقة مع ذكريات مرة غلفت كل تجربتها الانتدابية.
بالحالات كلها بقي الإرث الانتدابي حاضراً في الذاكرة، فقد فرضت فرنسا وبريطانيا أفكارهما الإدارية وقوانينهما ودساتيرهما ووزاراتهما وبقيت بعض شخصيات تكن للعهد الانتدابي الكثير من الود٬ وتحاول وصل ذات البين مع دول الانتداب، ولكن وبشكل عام كان الحس الوطني حاضراً وقوياً خاصة في الشارع٬ وانعكس بشكل كبير على شكل الأحزاب اللاحقة وتطلعاتها السياسية، فيما كانت دول الانتداب القديمة ما تزال ترنو إلى المنطقة بكثير من الحنين والرغبة في السيطرة مجدداً٬ وإن كان بطريقة التحكم من بعيد٬ فحاولت الدول المنتدِبة التنسيق لجر بلدان المنطقة وتشكيل أحلاف وتجمعات سياسية موالية لها، أما دخول الولايات المتحدة وثقلها الذي خلقته بعد الحرب العالمية، فقد جعل التكتلات تتعدد وتتزايد وتتباين رغباتها وأهدافها السياسية، فأصبح المشهد بين دول الحرب العالمية المنتصرة اتفاق بينها خلال مؤتمراتها المشتركة٬ وعبث مخفي في الإقليم٬ في محاولة تجنيد المزيد من الدول عن طريق رشوة المسؤولين أو تدبير الانقلابات العسكرية أو إسقاط الحكومات.
ظهر في فترة الاستقلال الأولى وخلال النصف الثاني من الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي تياران كبيران، كان الأول موالياً لبريطانيا بشكل واضح، وتكوّن من العراق والأردن، وترابط هذان القطران بشكل وثيق خاصة أن ملكي البلدين من أبناء الشريف حسين، والبلدين مرتبطان بمعاهدة بريطانية قوية تجعل التنسيق بينهما لازماً، فيما قررت الولايات المتحدة أن تتداخل في الإقليم٬ واستطاعت أن تشكل تحالفاً مع المملكة العربية السعودية، وانضمت إليهما لاحقاً مصر٬ فيما كان الملك فارق حينها يحاول التملص قليلاً من القبضة البريطانية، ففضل أن يبني سياسة منفردة مع المملكة العربية السعودية متقرباً من أمريكا.
لم تكن مصر في عهد الملك فارق ناجحة بتوجهها نحو الولايات المتحدة حيث كانت روابطها البريطانية قوية جداً٬ لكن النزوع نحو أمريكا ساعدها على التباعد عن التيار الثاني في الإقليم المتمثل بالأردن والعراق، وتمادت بريطانيا في تعميق وجودها بتأسيس حلف بغداد لتبقى على تمايز واضح منعزل عن التيار الأمريكي٬ وتشكل ذلك الحلف من تركيا والعراق والباكستان وإيران وبريطانيا، وكان العنوان العريض له هو الوقوف في وجه المد الشيوعي٬ وكانت تركيا وإيران على تخوم الاتحاد السوفيتي، وفي مرمى شواظه الأيديولوجية، في تلك الظروف السياسية الهائجة نالت سوريا استقلالها، وحاولت بناء وجهها الوطني٬ ولكن التيارات السياسية استطاعت أن تضربها بالاتجاهين٬ البريطاني والأمريكي٬ فيما كانت فرنسا تلعق جراح ما بعد الحرب العالمية الثانية٬ وتحاول تناسي خسارتها الهائلة أمام هتلر٬ وبناء جمهورية جديدة قادرة على الصمود في وجه التهديدات المستقبلية.
حاولت الكتلة الوطنية التي استلمت السلطة في سوريا٬ بانتخابات شعبية٬ أن تقف في الوسط تماماً، وأن تتعامل مع كلا التيارين على نحو سواء٬ وحرصت بشدة على أن تكون بعيدة عن أي تأثير فرنسي رفضاً للماضي الاستعماري كله٬ كما حاولت بناء سوريا مختلفة٬ وفي هذه الظروف جاءت حرب فلسطين٬ وسوريا شبه منزوعة السلاح، فلم يملك قادتها الجدد من أقطاب الكتلة الوطنية الوقت لتأسيس جيش كبير، إلا أن سوريا انجرفت بتيار العسكرة بشدة لوجود أصول وروابط لها في الأراضي الفلسطينية٬ مع ارتفاع تأثير التجييش من قبل شرائح مجتمعية نحو الدفاع عن فلسطين٬ ما أجبر حكام سوريا على استيراد السلاح وشرائه بكثرة وحتى تهريبه لمحاولة بناء جيش يرضي غضب المنتفضين ورغبتهم في وجود جيش للدفاع والمشاركة في حرب فلسطين، ولكن ذلك الجيش الذي نما٬ بدأ بضرب طبقة الحكام ذاتها٬ وبدلاً من سوريا وسطية لا تتبع أياً من التيارات السياسية المطروحة، ساعدت أمريكا قائد الجيش حسني الزعيم للقيام بحركة انقلابية أطاحت بقادة الدولة وتنصيب نفسه رئيساً.
لم يبقِِ الزعيم انحيازه إلى أمريكا سراً؛ بل حاول عقد اتفاقيات مع إسرائيل محاولاً إنهاء الحرب٬ والجلوس طويلاً على سدة الحكم، ليأتي دور حلفاء بريطانيا في العراق والأردن لتنفيذ انقلاب جديد يطيح بالانقلاب السابق٬ ويعيد ترتيب الأوضاع لصالح حلفهما (العراق والأردن) ويبدأ بترتيب البيت السوري الداخلي على مقاس جديد٬ بما يتضمنه من دستور ومجلس نواب وحكومة ورئيس.
لم يمضِ وقت طويل قبل أن تحدث حركة معاكسة تطيح بالحكومة الموالية للعراق٬ ويأتي قائد جديد للجيش يملي ما يريد على الساسة٬ ويفرض بشكل واضح الابتعاد عن طريق العراق وحلفائه٬ والاتجاه نحو مصر والسعودية، حدث كل ذلك في أقل من عام حيث تغيرت الاتجاهات بشدة أكثر من مرة٬ الأمر الذي أظهر هشاشة النظام السياسي في سوريا وطراوة الخاصرة العسكرية التي كانت أداة لتنفيذ الانقلابات، ودخول تلك المنعطفات السياسية، فبدأ قائد الانقلاب الجديد أديب الشيشكلي بحركة تنظيف في الجيش ليبقي البلاد تحت سيطرته أطول فترة ممكنة٬ فغير من عقديتها الديمقراطية التعددية، وفرض حزباً وحيداً هو قائده٬ وكل التعليمات المهمة أصبحت تمر من تحت يديه٬ وأعلن بجلاء وجهته نحو تيار مصر والسعودية المتداخل مع الولايات المتحدة.
تعمق هذا التيار بالانقلاب الذي قاده عبد الناصر في مصر، إذ وجه ضربة قوية للوجود البريطاني، وأصبح السياسي المصري حراً في التحالف مع من يريد٬ ففتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة٬ ولم يكن الدعم الذي تلقاه عبد الناصر في البداية من الولايات المتحدة سراً٬ قبل أن يتغير المزاج العام، ويتحول كل شيء نحو الاتحاد السوفيتي، ويتحول حلفاء السوفيت الجدد٬ ومنهم مصر٬ إلى الشكل المفرط من العنف في إدارة الحكم٬ وطبع عبد الناصر سوريا على صورته٬ ونشأ في سوريا جيل من الضباط المعجبين به٬ وسلموا له القيادة السياسية تحت عناوين عاطفية مع تحقيق الوحدة الاندماجية بين البلدين، وهي تجربة صعبة عانتها سوريا كثيراً٬ ثم استطاع الجيش بعد ثلاث سنوات أن يفرض انقلاباً أطاح بعبد الناصر٬ لوضع حد للنفوذ السوفيتي الذي بدأ يتعاظم في الإقليم على حساب النفوذ البريطاني والأمريكي.
وقبل أن يتحدد وجه سوريا السياسي لمدة أكثر من نصف قرن قادم٬ مع عائلة الأسد٬ خاض القطر تجربة حكومية تعددية حرة من عام 1961 إلى 1963، انتهت بعدها بشكل مرير ببقايا الكتلة الوطنية ورجالات عهد الاستقلال إلى غير رجعة.