سياسة
بلال صطوف
في خطوة توصف بالمفصلية ضمن مسار العدالة الانتقالية في سوريا، أصدر الرئيس السوري، أحمد الشرع، مرسومين يقضيان بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” و”الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، في محاولة للاستجابة لمطلب طالما نادت به عائلات مئات الآلاف من المفقودين والمختفين قسراً. ووفقاً للمرسوم، تتمتع الهيئة باستقلالية مالية وإدارية، وتُناط بها مهام حيوية تشمل الكشف عن مصير المفقودين، وتوثيق حالات الاختفاء، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية شاملة، إلى جانب توفير الدعم القانوني والإنساني للعائلات المتضررة. وقد جرى تعيين محمد رضا جلخي رئيساً للهيئة، مع مهلة لا تتجاوز ثلاثين يوماً لوضع النظام الداخلي والانطلاق في تنفيذ المهام.
ورغم أهمية هذه الخطوة، فإن التحديات التي تواجه الهيئة ضخمة، في مقدمتها ضرورة اعتماد مقاربة شاملة تربط بين المسارين القضائي والإنساني. كما أن بناء الثقة مع الأهالي يتطلب التزاماً شفافاً بمبادئ العدالة الانتقالية، لا سيما بما يتعلق في كشف الحقيقة وضمان عدم التكرار. فما المعايير التقنية اللازمة لتأسيس عمل فعّال للهيئة الوطنية للمفقودين؟ وكيف يمكنها بناء قاعدة بيانات وطنية موثوقة تُشكّل أساساً لأي مساءلة أو إنصاف مستقبلي ينهي سنوات من الألم والغموض؟
تُجمع الهيئات الدولية المتخصصة، وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري، ولجنة الاختفاء القسري، فضلاً عن اللجنة والمحكمة الأمريكيتين لحقوق الإنسان، على ضرورة أن تتبنى الدول التي تشهد أزمات اختفاء قسري هيئات وطنية متخصصة تعمل وفق معايير دولية واضحة. وتشدد هذه الجهات على أهمية أن تكون الهيئة ذات طابع مستقل وتضم كفاءات تقنية وقانونية قادرة على تصميم وتنفيذ خطة وطنية شاملة للبحث، قائمة على سياسة عامة واضحة، وأهداف قابلة للقياس، وإجراءات عملية ملموسة.
ومن بين الأدوات المرجعية المعتمدة، تبرز المبادئ التوجيهية للجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري، والممارسات الجيدة التي طورتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولا سيما تلك المتعلقة بتوثيق الحالات وإنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة تُحدّث باستمرار. وينبغي أن تشمل هذه القواعد معلومات دقيقة حول الضحايا، ومواقع الدفن المحتملة، والهوية البيومترية، والبيانات الجنائية ذات الصلة.
وتشدد المبادئ على ضرورة حماية البيانات الشخصية واستخدامها حصرياً في إطار التحقيقات، وعلى أهمية التنسيق المؤسسي لمنع تضارب البيانات وتشتتها. كما تؤكد وجوب شمولية التوثيق، بحيث لا يُقتصر على ضحايا فترة زمنية محددة، بل يشمل كل من فُقد أو اختفى قسراً عبر العقود، بما يعزز ثقة المواطنين، خصوصاً في المناطق المهمشة، ويؤسس لعدالة انتقالية لا تستثني أحداً.
يُعد تحديد مواقع الدفن والمقابر الجماعية المحتملة وحمايتها جزءاً جوهرياً من أي استراتيجية وطنية فعّالة للبحث عن المفقودين، لا سيما في السياقات التي شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما هو الحال في سوريا. وتُجمع المعايير والممارسات الدولية، بما في ذلك تلك التي أرستها المحاكم الجنائية الدولية، على أن حماية هذه المواقع تبدأ من توثيقها وتسجيل إحداثياتها بدقة، وصولاً إلى اتخاذ إجراءات حازمة لمنع العبث بها أو تدهورها نتيجة العوامل البيئية أو التدخلات البشرية المتعمدة.
ولا يقتصر دور هذه المواقع على قيمتها الرمزية أو الإنسانية، بل تمثل مصدراً رئيساً للأدلة المادية اللازمة لمساءلة المسؤولين عن الجرائم، لا سيما في حالات القتل الجماعي والاختفاء القسري. وتشير التوصيات الدولية إلى ضرورة إنشاء خريطة وطنية محدثة للمقابر المعروفة والمحتملة، تحت إشراف هيئة مختصة، مع سجل خاص يشمل أسماء المفقودين والضحايا المرتبطين بها، يضمن الحماية القانونية للبيانات ويوثق جميع الأنشطة المرتبطة بتلك المواقع.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية إشراك المجتمع المدني في عمليات الرصد والتوثيق ورسم خرائط مواقع الدفن، بما يعزز من الشفافية ويسهم في بناء الثقة. إلا أن غياب التنسيق بين الجهات الرسمية وغير الرسمية غالباً ما يؤدي إلى تضارب البيانات وتكرار الجهود، وهو ما يستدعي تطوير نظام تسجيل مركزي متكامل، يعتمد على تقنيات حديثة مثل نظم المعلومات الجغرافية، وتقنيات “الليدار”، والرادار الجيولوجي، لضمان الدقة وسرعة الاستجابة.
وتُعد عمليات استخراج الرفات خطوة مفصلية تتطلب حضور فريق متعدد التخصصات يضم خبراء في الطب الشرعي، والأنثروبولوجيا، والآثار، لضمان الحفاظ على السياق الجنائي والإنساني للموقع. كما يجب أن تُنفّذ هذه العمليات وفق منهج علمي يراعي إشراك أسر الضحايا وحقهم في معرفة الحقيقة. فالعدالة لا تقتصر على الكشف عن هوية الضحايا، بل تمتد لتشمل الاعتراف بكرامتهم، واحترام ذاكرتهم، وتقديم الدعم لأسرهم ضمن عملية شفافة تعزز من السلم الأهلي وتمنع تكرار الانتهاكات مستقبلاً.
في سياق التحقيق بملفات الاختفاء القسري، تُعد سلامة الأدلة من لحظة جمعها حتى تقديمها أمام الجهات القضائية عنصراً حاسماً لضمان العدالة. ويكتسب هذا الجانب أهمية خاصة في حالات الجرائم الجسيمة، حيث يؤدي أي تهاون في حفظ الأدلة إلى ضياع فرص معرفة الحقيقة وإفلات الجناة من المساءلة. وتُعد “سلسلة الحراسة” أو Chain of Custody من المبادئ الأساسية في العمل الجنائي، إذ تتطلب توثيقاً دقيقاً لكل مرحلة تمر بها الأدلة، من جمعها وتغليفها إلى تخزينها ونقلها، مع اعتماد آليات تصنيف تمنع التلاعب أو التلوث.
ويشمل ذلك استخدام معدات خاصة لحماية الأدلة، لا سيما عند التعامل مع الرفات البشرية، التي يجب تصويرها وتصنيفها وفق معايير علمية موحدة، مع توثيق فوتوغرافي وتشريحي شامل. كما توصي المعايير الدولية بوضع نماذج جرد دقيقة لكل قطعة، لضمان إمكانية إعادة بناء المشهد الجنائي لاحقاً. ويجب نقل كل جزء من الرفات في ظروف ملائمة تحافظ على سلامته، باستخدام رموز تعريفية فريدة تتيح تتبعه في كل مرحلة من مراحل التحليل.
أما في ما يتعلق بتحديد الهوية، فيُعد تحليل الرفات من أصعب المهام وأكثرها حساسية، إذ يتطلب جمع بيانات “ما قبل الوفاة”—مثل السجلات الطبية، وسجلات الأسنان، وبصمات الأصابع، وملفات الحمض النووي لأقرباء المفقود—و”ما بعد الوفاة”، التي تشمل السمات الجسدية المميزة، وتفاصيل الهيكل العظمي، والتحاليل الجينية. وتتطلب هذه المرحلة إشراف خبراء مختصين في الطب الشرعي، والأنثروبولوجيا، وطب الأسنان الشرعي، لضمان دقة النتائج واحترام كرامة الضحايا.
وفي الحالة السورية، يشكّل إنشاء بنك وطني للبيانات الجينية حجر الزاوية في عمليات التوثيق وتحديد الهوية. وينبغي أن يُدار هذا البنك من قبل هيئة مستقلة تلتزم بالمعايير الدولية في حماية الخصوصية وتخزين البيانات الحساسة، ويُستخدم حصرياً لأغراض تحديد الهوية، تجنباً لأي استغلال سياسي أو أمني للمعلومات. كما يتطلب الأمر تطوير قاعدة بيانات وطنية شاملة تدمج معلومات ما قبل وما بعد الوفاة، وتُحدّث بانتظام، مع توفير تدريب مستمر للكوادر العاملة في هذا المجال.
وإلى جانب التحليل الجيني، توصي الممارسات الفضلى باستخدام تقنيات داعمة مثل الراديوغرافيا، وتحليل الإصابات السابقة أو الأمراض المميزة، لتأكيد الهوية في الحالات التي يصعب فيها الاعتماد على الحمض النووي وحده، خصوصاً في ظل ظروف التحلل أو التدمير المتعمد للجثث. ويضمن هذا النهج متعدد التخصصات تعزيز مصداقية التحقيقات ويراعي البُعد الإنساني لعائلات الضحايا.
في سياق العدالة الانتقالية، لا يُقاس إنهاء ملف المفقودين بمجرد استكمال الإجراءات الإدارية أو القانونية، بل يتجسد في عملية إنسانية متكاملة تُعيد الاعتبار للضحايا وذويهم، وتعزز أواصر الثقة المفقودة بين الدولة والمجتمع. وتؤكد المعايير الدولية، بما في ذلك توصيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيئات حقوق الإنسان الأممية، على أن نهاية عملية البحث يجب أن تتم بروح من الاحترام والكرامة، سواء تم التوصل إلى تحديد هوية الضحية أم لا.
ويُعد تسليم رفات الضحايا ودفنها وفقاً للمعتقدات الدينية والثقافية للأسر خطوة أساسية في هذا المسار، لما تحمله من رمزية بالغة ودور حاسم في تمكين العائلات من ممارسة طقوس الحداد واستعادة جزء من كرامة مهدورة. وتشدد هذه المعايير على وجوب تنفيذ هذه الخطوة دون تحميل الأسر أي عبء مادي، بل بدعم مباشر من الدولة لتغطية تكاليف الجنازات، والنقل، والدفن، بما يضمن الاحترام والسرعة في كافة مراحل التسليم. كما يُعد توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأسر أثناء هذه المرحلة واجباً لا خياراً، لمساعدتهم على التعامل مع صدمة الفقد وإغلاق الدائرة المؤلمة من الانتظار.
وتنبه منظمات حقوقية وخبراء إلى خطورة ممارسات تُنتهك فيها كرامة الضحايا، كإعادة الرفات دون معلومات كافية، أو دفنها في مقابر جماعية دون توثيق، ما يعيد إنتاج الألم بدل مداواته. وتُعتبر مشاركة العائلات في اتخاذ القرار بشأن رفات أحبّائهم حقاً أصيلاً لا يمكن تجاوزه، بل هو ضمانة لعدالة تحترم الإنسان حتى في موته. أما في الحالات التي تبقى فيها الهوية مجهولة، فالمطلوب هو حفظ هذه الرفات في ظروف لائقة، مع ضمان إمكانية التعرف عليها لاحقاً، من خلال أنظمة توثيق دقيقة تحترم كرامتها.
وتذهب هذه المقاربة الإنسانية إلى ما هو أبعد من العدالة الجنائية، لتصبح مدخلاً نحو مصالحة وطنية حقيقية. فاحترام الذاكرة، والحق في الحداد، والاعتراف العلني بمعاناة الضحايا وأسرهم، كلها عناصر تعزز من ترميم النسيج الاجتماعي، وترسي أسس الثقة في مؤسسات الدولة. وفي السياق السوري، الذي لا يزال يرزح تحت وطأة آلاف حالات الاختفاء القسري، فإن اعتماد نهج إنساني شامل في إنهاء هذا الملف لا يُعد ترفاً، بل ضرورة وطنية وأخلاقية.
ورغم أهمية هذه الإجراءات، فإنها تواجه تحديات كبيرة في الواقع السوري، منها غياب الخبرات الوطنية الكافية في مجالات الطب الشرعي، ونقص البنية التحتية المخصصة لحفظ وتحليل الأدلة. لذلك، تبدو الحاجة ماسة إلى دعم تقني دولي طويل الأمد، وبرامج تدريب تُعزز من كفاءة الفرق المحلية، بما يكفل التعرف على الضحايا بدقة، ويسهم في رد الاعتبار لأسرهم، ويعيد للعدالة معناها الحقيقي.
ففي نهاية المطاف، لا تكمن قيمة هذه الجهود في بعدها الجنائي فقط، بل في أبعادها الإنسانية والأخلاقية، إذ تُعيد الكرامة للضحايا، وتمنح ذويهم حقهم في الوداع، وتُرسي أسس العدالة التي تمهّد لمصالحة وطنية شاملة. إن إغلاق ملف المفقودين لا يتم بتوقيع على ورقة أو دفن رفات في مراسم صامتة، بل هو فعل سياسي وأخلاقي بامتياز، يتطلب من الدولة أن تعترف، ومن المجتمع أن يشارك، ومن العدالة أن تُنصف. إنها خطوة محفوفة بالتحديات، لكنها تُشكّل بداية طريق نحو جبر الضرر، والاعتراف، وبناء ذاكرة جماعية لا تنسى، بل تحتضن الحقيقة كركيزة لأي سلام مستقبلي.