مشاركات سوريا
معتز السيد
بعد اكتمال المشهد الخارجي تقريباً، وتحقيق القيادة السورية الجديدة لإنجازات مهمة تمثلت في إعادة العلاقات السورية مع المحيط العربي والدولي، تجلت أخيراً برفع العقوبات الأمريكية عن سوريا ولقاء الرئيس الشرع برئيس الولايات المتحدة، بدأ الحديث الآن عن إعادة ترتيب البيت السوري داخلياً للنهوض مجدداً بعد تركة ثقيلة من نظام الأسد تتمثل باقتصاد منهار وبنية دولة مهترئة. لكن من أصعب التحديات التي تقف أمام الإدارة الجديدة، إن لم يكن التحدي الأكبر، هو إعادة هيكلة الجيش السوري.
فعلى مدار عقود، تحول الجيش السوري من رمز وطني جامع للسوريين إلى أداة قمع مبنية على أسس طائفية تخدم دكتاتورية النظام المخلوع، ففقد الثقة وتعمق الشرخ بين هذه المؤسسة وبين الشعب لتكتمل الصورة لاحقاً بعد اندلاع الثورة السورية وتظهر حقيقة هذه المؤسسة المنخورة من الداخل، وتطفو مشاكل الفساد المالي والبنية العقائدية الهشة، ليتفكك هذا الجيش في نهاية المطاف ويصبح مجرد إطار تنطوي تحته مليشيات طائفية وحزبية لا علاقة لها بالوطن ولا بالشعب.
وفي سوريا الجديدة، لم يعد تشكيل الجيش مجرد محاولة ترميم لما سبق أو إعادة إصلاح كغيره من مؤسسات الدولة، بل الأمل الآن بإعادة تشكيل كامل لهذه المؤسسة على أسس صحيحة وسليمة وقواعد وطنية جامعة لاستعادة الدور الحقيقي لهذا الجيش. لكن السؤال يبقى: هل يوجد حالياً إمكانية لهذا البناء؟ وعلى أي أسس؟ وما الطريقة؟
منذ إعلان خطاب النصر وبحضور أغلب الفصائل الفاعلة في اجتماع تكليف الرئيس الشرع بمهام المرحلة الانتقالية، يبدو أن هناك إرادة حقيقية لجمع السوريين حول جيش جديد يضم كافة الفئات. ورغم بطء الخطوات، يبدو أن إعادة بناء هذه المؤسسة تسير بخطى ثابتة نحو إعادة الهيكلة بعيداً عن الإقصاء الكامل أو التفرد بها من قبل الإدارة الجديدة، من خلال إعلان وزارة الدفاع ضم جميع الفصائل المسلحة التي شاركت بإسقاط الأسد، ولاحقاً الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية وتشكيل لجنة لإعادة دمجها مع مؤسسات الدولة، وأخيراً مفاوضات متقدمة مع فصائل الجنوب السوري.
وقد بدأ الحديث مؤخراً بين الأوساط المطلعة عن مفهوم الـ(DDR) وإمكانية تطبيقه في سوريا، فما هو هذا البرنامج وما هي إمكانية تطبيقه؟
إن مصطلح (DDR) هو اختصار للكلمات الثلاثة: نزع السلاح، التسريح، إعادة الدمج. وهو إطار استخدمته الأمم المتحدة من أجل إعادة تأهيل المجتمعات بعد النزاعات المسلحة، وطُبِّق في عدة بلدان ويقوم على ثلاث مراحل: الخطوة الأولى تقوم على نزع السلاح من أيدي المقاتلين على اختلاف انتماءاتهم وعقائدهم وولائهم، ثم التسريح حيث يُنهى ارتباطهم العسكري بفصائلهم السابقة، وختاماً إعادة دمجهم في مؤسسات الدولة أو المجتمع بعد تأهيل اقتصادي ونفسي.
وهذه الخطوات الثلاثة الهدف منها خلق بيئة خالية من النزاعات المسلحة والانقسامات، وبناء جيش وطني موحد يعمل من أجل مصلحة الدولة والشعب وليس من أجل فئة أو جهة أو أيديولوجيا. وطرح هذا البرنامج حالياً يراه البعض ضرورة أمنية وسياسية للخروج من إرث النظام القديم وبناء سوريا الجديدة.
رغم منطقية طرح الـ(DDR)، سوف يصطدم تطبيقه في سوريا بعدة عقبات، أهمها: العدد الكبير للفصائل المسلحة أو من حمل السلاح من جميع أطياف الشعب السوري، وتعدد ولاءاتهم وانتماءاتهم وخلفياتهم الثقافية والعقائدية والإثنية. والجمع بين هذه الأطراف ضمن مؤسسة واحدة يحتاج إلى إرادة حقيقية من جميع هذه الأطراف وآلية دمج محددة وواضحة وشفافة.
والعقبة الثانية تتمثل بالتاريخ الطويل من النزاع بين جميع هذه الأطراف والإرث الدموي الكبير، فالجيش السابق متهم بارتكاب مجازر وانتهاكات واسعة، وإعادة دمجه دون آليات محاسبة ضمن إطار العدالة الانتقالية سيؤدي في نهاية الأمر إلى فشل هذه المؤسسة. والعقبة الثالثة يمثلها اقتصاد منهار وعقوبات ثقيلة تمنع توفير فرص اقتصادية أو منح للمقاتلين السابقين، بالإضافة إلى عقبة التوازنات الإقليمية المعقدة والتي كانت سوريا ساحة لصراعاتها على مدى أكثر من عقد خلال تاريخ ثورتها.
إن اعتماد خطة واضحة لإعادة هيكلة جيش وطني جامع للسوريين كلهم يجب أن ينطلق من إرادة سياسية قوية ومحددة، وربما كان برنامج الـ(DDR) يمثل حلاً واقعياً في هذه المرحلة، ولكن يجب أن يُطَبَّق بناء على عدة أسس منها ما بدأ العمل به الآن أو سيُعمل به لاحقاً.
وأي خطوة لإعادة بناء الدولة يجب أن تكون إعادة هيكلة الجيش فيها محور النقاش الأهم، وأول الأسس وأهمها مسار العدالة الانتقالية، فبعد تشكيل الهيئة المكلفة بالإشراف على هذا المسار وتطبيقه يجب أن تأخذ إعادة دمج حاملي السلاح سابقاً بعين الاعتبار، فمحاسبة المجرمين توفر بيئة مثالية لإعادة الثقة بين المجتمع ومؤسسة الجيش. ومن الأسس أيضاً خضوع الجيش الجديد للهيئة التشريعية المدنية الممثلة تمثيلاً حقيقياً للشعب.
إن أي انتقال سياسي نحو المدنية يجب أن ينحي الجيش عن السلطة ويحصر دوره في حماية البلاد بعيداً عن الشأن السياسي، وكل هذا لا يتحقق طبعاً إلا بتمويل دولي وإرادة دولية تنقل سوريا نحو دولة مستقرة بعيدة عن فوضى السلاح وترسخ السلام والتنمية. وهناك تجارب سابقة وناجحة يمكن البناء عليها والاستفادة منها.
برنامج الـ(DDR) ليس بجديد، والحديث عنه الآن اعتماداً على تجارب لدول مرت بالسياقات السورية نفسها وخرجت من نزاعات مسلحة دامية، بعضها نجح في تأسيس جيش وطني قوي ويلبي إرادة الشعب، وبعضها فشل بسبب أخطاء في تنفيذ الخطة أو غياب الإرادة الحقيقية.
ففي جنوب أفريقيا وبعد انتهاء نظام الفصل العنصري، كان البرنامج حالة ناجحة يمكن تعميمها، فبعد عقود من الصراع الدموي بين حكومة البيض والمقاومة المسلحة، اتُّفق على قيادة سياسية موحدة بقيادة نيلسون مانديلا ودمج العسكريين السابقين في جيش واحد لتنتقل الدولة نحو الازدهار، وهذا ما يجب على سوريا الاستفادة منه حيث إن إدارة سياسية تمثل الجميع وتحظى بشرعية وطنية يمكن أن تسهل تقبل فكرة الجيش الوطني الجديد.
ومن التجارب الناجحة أيضاً تجربة ليبيريا وسيراليون، ففي هاتين الدولتين دُمج المقاتلون السابقون في المجتمع من خلال المشاريع الصغيرة والمنح الاقتصادية والتأهيل النفسي الذي قادته الأمم المتحدة لتخرج هاتان الدولتان أخيراً من دوامة العنف. وهنا على القيادة في سوريا أن تنظر إلى برنامج الدمج ليس عملية عسكرية فقط، بل مشروعاً تنموياً وإصلاحاً شاملاً وجامعاً.
وعلى النقيض، يمكن الحديث عن تجارب فاشلة لإعادة هيكلة الجيش ضمن برامج الأمم المتحدة والـ(DDR)، سببها خلل في التطبيق. ففي كولومبيا وبعد توقيع اتفاقيات التسريح والدمج بين الحكومة ومتمردي “الفارك”، لم تكن هناك آليات محاسبة شفافة وحقيقية مما خلق حالة من الإحباط في المجتمع، وعادت بعض الجماعات لحمل السلاح بعد شعورها بالخذلان.
ومن أقرب التجارب الفاشلة ما حدث في العراق، فبعد الغزو الأمريكي تم تسريح الجيش بشكل كامل دون الرجوع إلى برامج الـ(DDR)، ما أدى إلى فراغ أمني وانضمام عدد كبير من الجنود والضباط إلى تنظيمات مسلحة محلية، وأخطرها تنظيم القاعدة وداعش لاحقاً.
في نهاية الأمر: إعادة تشكيل جيش وطني جامع للسوريين كلهم كان أحد أحلام وأهداف الثورة، ربما كانت برامج الـ(DDR) وسيلة وحل للمساهمة في بنائه.
ولكن كل ما ذُكر سابقاً لا يكفي، بل يجب الانطلاق من عملية واسعة تشمل تطبيق العدالة الانتقالية بشكل حقيقي، والعمل على مسارات محاسبة شفافة، ومصالحة وطنية شاملة، وتنمية اقتصادية، ومحاربة للفساد، وتحقيق ذلك سيؤدي في نهاية الأمر إلى دولة مواطنة يكون الجيش مظلة حامية للشعب وليس طرفاً في أي صراع.