سياسة
أحمد عوض
الشارع خالٍ إلا من ظلالٍ تتراقص على جدران دمشق القديمة.
ظلُّ رجلٍ مسرعٍ نحو بابٍ حديديٍّ صدئٍ، وخطواته تتردد بين صدى الليل وحفيف الأوراق المتساقطة. همسةٌ من خلف الباب: “المفتاح بيدك… لا تنسَ الوصية.” يدٌ ترتجف وهي تنزلق عبر فتحة الصندوق الخشبي، تلتقط ورقةً صفراء، حبرها باهت، توقيعٌ مخفيّ في ركنها الأسفل. المفتاح يرقد بجوار الوصية، مفاتيحٌ قديمة، مفاتيحٌ سرّية.
دمشق، ربيع 1965 استيقظت المدينة على صدى إعدام جاسوسٍ يدعى إيلي كوهين. الخبرُ اجتاح الأحياء، هاجت الألسن، وانحنى الجدار الصامت أمام وقع الصدمة.
ستون عاماً مرَّت، وثلاثة آلاف ورقةٍ وصورٍ ومقتنياتٍ شخصيةٍ ظلَّت مدفونة في أرشيفٍ سوريٍّ مغلق. اليوم، يعود المفتاح ليحملنا عبر الزمن، يُبعث الشبح المفقود.
إنها كوهين 2.0: النسخة المحدثة من أسطورة الجاسوس، التي أعادت الأرشيفُ سردها، وكشفت الوجوهَ التي اختبأت خلف القناع. ما الذي كان يكتمه حبرُ هذه الوثائق؟ ما الأسرار التي نجت من قبضة الزمن وظلّت تُهمس في الممرات المظلمة لمقرّ الاستخبارات؟ وكيف ستعيد هذه الأوراق رسم معالم قصةٍ اعتقدنا أنّها طُويت صفحاتها إلى الأبد؟
في هذا الاستقصاء الصحفي، سننفتح على خيوط القصة من بدايتها، نُجسّد رحلة كوهين بين شوارع الإسكندرية وإسرائيل وقلب دمشق، لنقف على مفاتيح التجنيد، ونترصد لحظة الاختراق، ونكشف معاً أسرار الأرشيف المستعاد.
ولد إيلياهو بن شاؤول كوهين في 6 ديسمبر 1924 بمدينة الإسكندرية المصرية، في أسرة يهودية حلبيّة تربيته على تقاليد المشرق وثقافته. منذ طفولته، تميّز بذكائه الحاد وقدرته الفريدة على إتقان أربع لغات: العربية بلهجاتها، والعبرية، والفرنسية، والإنجليزية. لم يكن هذا التعدد اللساني مجرّد ميزة، بل أصبح بوصلته نحو عالم الاستخبارات. بعد حرب السويس عام 1956، وعلى خلفية اشتباكاته مع السلطات المصرية، أعيد كوهين إلى إسرائيل حيث عمل مترجمًا ومحاسبًا مدنيًا في تل أبيب. ومع نهاية الستينيات، رصدته “وحدة 131” السرية التابعة للموساد لاختيار العناصر الأكثر موهبةً وجرأةً للمهام الصعبة.
في معسكرات التدريب البعيدة بصحراء النقب، بدأت معالم “كامل أمين ثابت” تتبلور، إذ دُرّبوا على فنون التنكر والتمويه، وأدركوا أن براعة إيلي في اللهجة الشامية وحسه الثقافي ستمكّنانه من الاقتراب حتى من أرفع الأمسيات في قلب دمشق. نقّحوه في قراءة خرائط القتال، وتدرّب على إرسال الرسائل المشفرة عبر موجات قصيرة مُعقّدة، بل وشبّكوه بدورات تظاهرية في فنون الكذب الإبداعيّ. على مدى أشهر، عاش بصحبة خبراء في تزوير الهوية وصنع جوازات مزيفة تحمل اسم “كامل أمين ثابت” – تاجر أراضٍ سوريٍّ مغترب يعود من الأرجنتين.
في يناير 1962، عبر “ثابت” الحدود اللبنانية-السورية، وأمضى ليلته الأولى في شقة مفروشة بحي أبي رمانة الراقي، متنكرًا بملامح رجل أعمال واثق من نفسه. لم يكن يميل إلى الصمت؛ بل اختلط برجال السياسة والعسكريين في صالونات دمشق الأنيقة، مستمعًا دومًا إلى همساتهم وخططهم، حتّى اختزل لهم شخصية “التاجر الموثوق” التي لم تُدَع مجالاً للشك في هويته.
سار “ثابت” في دمشق بخطوات واثقة، حتّى بات اسمه يتردّد في أروقة الأركان العامة. على مدى أكثر من ثلاث سنوات، جمع إيلي كوهين مئات التفاصيل السرية: خرائط مواقع دبابات تنبض تحت أكتاف الحدود، وتقارير عن تحصينات سهل الغاب، ومتابعة دائمة لتحرّكات كبار القادة. باتت برقياته المشفرة تُرصَد بصمت في أروقة “الكيهان” الإسرائيلي، واعتبرتها قيادة الموساد مفتاحًا استراتيجيًا مهدّ الطريق لخطط إسرائيلية حاسمة قبل حرب 1967.
غير أن الشغف بالسرعة التقنية واختلاف الموجات ألحق به خطأً قاتلاً. في 19 فبراير 1965، أرسل برقيته الأخيرة التي أفصحت عن موعد اجتماع هيئة الأركان العامة. إذ إنه لم يدمج تغييراً طفيفًا في توقيت الإرسال، فالتقط خبراء الاتصالات السورية-السوفييت إشاراتِه، وتعقّبوها إلى شقته في أبي رمانة. داهمته دوريات الأمن في فجر اليوم التالي، وألقى القبض عليه وهو ممسكٌ بجهاز الإرسال، قبل أن يعلن اعترافه الفوري: “أنا إيلي كوهين من إسرائيل”.
بعد أيامٍ من الاستجواب تحت وطأة التعذيب، مثّل كوهين أمام المحكمة العسكرية في ساحة المرجة وسط هتافات “الموت للعميل”. كان المشهد مأساويًا: حبال المشنقة تربط عنقه، وحشدٌ مصرّ على رؤية نهاية “التاجر” الذي خان دمشق. في صباح 18 مايو 1965، ارتفع جلال الإعدام، وسقط “كوهين” في قلب الميدان، مسجلاً فصلاً مأساويًا ضمن أساطير التجسس.
ستون عامًا مرت على إعدام الجاسوس، قبل أن تعود الوقائع لتعيش فصلًا جديدًا في مايو 2025، حين كشف الموساد عن استعادة نحو 2,500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية من الأقبية السورية. في مراسيم رسمية حضرها رئيس الوزراء ورئيس الموساد، قُدّمت الوصية الأخيرة لكوهين بخط يده، مفاتيح شقته، جوازات السفر والبطاقات المزيفة، ورسائلٌ مطبوعةٌ على خرائطٍ توضح خطط التقدم والدبابات، وتسجيلات استجوابه بعد اعتقاله.
لم تكن هذه المواد مجرد تراثٍ مُهمل، بل جسراً ذهبياً بين ذكريات الرحلة والجوانب المجهولة من شخصية “كامل أمين ثابت”. تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية تفاصيل الورق الصفراء والصور الباهتة التي كشفت وجهاً ثانياً لكوهين: رجلٌ جمع بين مهارة الممثل وفنِّ الفطنة والاستخبارات، وفي الوقت ذاته عاش تائهًا بين ولائه للوطن وخيانته.
اليوم، تثير هذه الوثائق أسئلةً وجوديةً: هل يكفي إرجاع الإطارات الورقية ليفتّش العالم عن الحقيقة؟ أم أن البحث عن رفات كوهين المفقودة في دمشق يبقى الفجر الموعود للدفءَ الكامل لقصته؟ بذاكرةٍ لا تنتهي وملامحٍ لا تختفي، يظل “كوهين 2.0” رمزًا لنهايةٍ لم تعرفها المغاليق، وقصة تُعلن أن الثورة الاستخباراتية لا تكتمل إلا حين ينهض التاريخ من تحت الرماد، يحمل أسراره، ويُخاطب ضمائر الأجيال القادمة.