سياسة
أحمد عوض
لم تكد الثورة السورية تندلع حتى بدأت التغيرات الإقليمية ومعادلات التحالفات تتبدل بشكل جذري. الثورة السورية، التي بدأت كمطالبة بإصلاح النظام، ثم تطورت إلى ثورة تطالب بإسقاطه بعد اليأس من أي إصلاح جاد، واجهت تحديات لم تشهدها بقية ثورات الربيع العربي. تكالبت على الثورة السورية رغبات ديكتاتورية محلية في الحفاظ على السلطة بأي ثمن، مع رغبات إقليمية لتأسيس محور نفوذ عبر سوريا، إضافةً إلى محاولات المجتمع الدولي -ولا سيما روسيا- إثبات تفوقها في المنطقة. وسط هذه الدوامة، وجدت الثورة السورية نفسها مكبلة داخلياً، إقليمياً ودولياً.
ومع بداية تسليح الثورة، بدأ ظهور الرايات التي تميزت بها حربها، مثل لواء أبو الفضل العباس، لواء ذو الفقار، لواء فاطميون، وزينبيون، وغيرها. الصراع الديني في سوريا لم يكن جديداً، بل هو نتيجة تراكم سياسات توسعية واستقطابية بدأتها إيران وغيرها من القوى الإقليمية منذ عام 1979. كانت إيران هي اللاعب الإقليمي الثابت، بينما تغيرت تحالفات الدول الأخرى عبر العقود.
هذا المقال محاولة لفهم تأثير السياسات التي أدت إلى توسع “الشرخ” في الشرق الأوسط، ما مهد الطريق لصراع مسلح وحرب أهلية استقطابية. سنحاول أيضاً قراءة الوضع السوري والإقليمي من منظور شامل يأخذ بعين الاعتبار المصالح المتضاربة لدول المنطقة، مع تسليط الضوء على الصراعات والحروب التي امتدت لنحو ثلاثين عاماً قبل اندلاع الثورة السورية.
بداية مجهضة لمشروع إقليمي
مع انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، دخلت إيران طوراً جديداً من السياسة الخارجية، قائماً على تصدير الثورة كأداة لإعادة تشكيل الإقليم وفق رؤيتها العقائدية. اعتبرت طهران أن لحظة سقوط الشاه تمثل، ليس فقط نهاية حقبة داخلية، بل أيضاً بداية مشروع تحرر شامل من “الهيمنة الأمريكية والغربية” في المنطقة، خاصةً في وجه الأنظمة التي وصفتها إيران بالعميلة أو التابعة.
وفي أوج الصراع بشتى الوسائل على بسط النفوذ بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وبعد سنين تقوّض فيها حلم إنجاح حركة عدم الانحياز كحركة سيادية تكسر الاستقطاب الحاد، طرحت الثورة الإيرانية مشروعها الإيديولوجي السياسي الذي يهدف إلى توحيد المنطقة في ما بات يُعرَف لاحقاً بـ”الهلال الشيعي”.
لكن هذا المشروع اصطدم مبكراً بجدار الدم في الحرب مع العراق (1980–1988)، والتي لم تكن فقط صراعاً حدودياً كما صوّرتها بغداد، بل كانت أول محاولة إقليمية لكسر الاندفاعة الإيرانية الثورية. وفقاً لتقارير، وجدت طهران نفسها أمام تحالف إقليمي غير معلن قادته دول الخليج، مدعوماً من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، التي زوّدت العراق بالمعلومات الاستخباراتية والقدرات التقنية والعسكرية.
رغم الفاتورة الباهظة بشرياً واقتصادياً، خرجت إيران من الحرب مثخنة لكنها أكثر اقتناعاً بأن النفوذ لا يُبنى من خلال الجيوش النظامية فقط، بل عبر أدوات مرنة وموزعة: حركات أيديولوجية عابرة للحدود، ميليشيات طائفية، وشبكات اقتصادية موازية. ويمكن القول إن تلك الحرب مثّلت “لحظة تأسيس غير ناجحة” لمشروع إيران الإقليمي، لكنها دفعتها لاحقاً لتبديل أدواتها، لا أهدافها!
وما إن انتهت الحرب حتى بدأت طهران في زرع بذور وجودها الجديد في مناطق الفراغ والضعف، من لبنان إلى سوريا والعراق، واضعةً نصب عينيها هدفاً استراتيجياً: بناء هلال نفوذ شيعي يمتد من طهران إلى البحر المتوسط. هذا التوجّه لم يكن وليد لحظة، بل استثمار طويل في الفرص التي فتحتها الحروب والاحتلالات والفراغات السيادية في المنطقة.
يذكر إيتامار رابينوفيتش، سفير إسرائيل في الولايات المتحدة، في مقاله “كيف تطورت طموحات إيران الإقليمية” أن:
“منذ عام 1982، تجلّت جهود حشد وتجنيد الطوائف الشيعية في الشرق الأوسط في لبنان. علاوة على ذلك، نُفّذت هذه الجهود بالشراكة مع الحليف الإقليمي الأول للجمهورية الإسلامية، سوريا حافظ الأسد، وهي دولة يهيمن عليها الشيعة. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، زعزع سعي إيران للهيمنة الإقليمية، والموارد التي سخّرتها لتحقيق هذه الغاية، الشرق الأوسط. وفي السنوات الأخيرة، تجلّت هذه الطموحات بشكل خاص في الحرب الأهلية السورية.”
هكذا، وُلد مشروع إيران الإقليمي من رحم الفشل، لكنه نجا وتحوّل بفضل مرونته وتكتيكاته غير التقليدية، واضعاً أسساً لصراعات قادمة تجاوزت حدود الدول نحو عمق النسيج المجتمعي نفسه.
الوحش البديل… العراق كعب أخيل
خرج العراق من حرب الثماني سنوات مع إيران منهكاً، لكنه بقي في موقع متقدم إقليمياً من حيث القوة العسكرية والاحتياطي النفطي، مما جعله، في نظر الغرب، خطراً كامناً يمكن أن يهدد التوازن الإقليمي مجدداً. فجّر صدام حسين هذا القلق بغزوه الكويت عام 1990، في لحظة اعتُبرت ذروة غطرسته الإقليمية ونقطة الانفجار في علاقته مع حلفاء الأمس.
كان غزو الكويت تحولاً مفصلياً غيّر المعادلة. تدخلت الولايات المتحدة بقيادة تحالف دولي لطرد الجيش العراقي في ما سُمّي بحرب الخليج الثانية، لكنها لم تسقط نظام صدام، بل فرضت عليه حصاراً طويلاً دمّر الاقتصاد العراقي وأضعف بنية الدولة والمجتمع.
ووفق ما يذكر فالي نصر في دراسته حول الطائفية السياسية في الشرق الأوسط، فإن هذا الحصار كان أحد العوامل الرئيسية التي أنتجت لاحقاً مجتمعاً هشاً ومنقسماً، قابلاً للاختراق الطائفي والسياسي.
في عام 2003، قررت الولايات المتحدة الإطاحة بالنظام العراقي مباشرة. لم يكن الغزو فقط تفكيكاً لنظام صدام حسين، بل كان أيضاً تفكيكاً للدولة العراقية ذاتها. حلّ الجيش، اجتثاث البعث، تغييب مؤسسات الدولة… كلها كانت قرارات مهّدت الطريق أمام إيران للدخول بثقلها، هذه المرة من بوابة “الشرعية الديمقراطية” الظاهرية: دعم الأحزاب الشيعية، رعاية ميليشيات مسلحة، وتوجيه العملية السياسية بما يخدم مصالحها.
كما يورد مايكل نايتس في تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فإن الميليشيات المدعومة من إيران مثل “بدر” و”عصائب أهل الحق” بدأت تفرض حضورها الأمني والسياسي تدريجياً، مستفيدة من الدعم الإيراني وتراجع القبضة الأمريكية. بل إن “الحشد الشعبي”، الذي تأسس لاحقاً لمواجهة داعش، تحوّل إلى مظلة شرعية لتكريس النفوذ الإيراني تحت غطاء “مقاومة الإرهاب”.
وهكذا، فإن العراق الذي صُمّم يوماً لكبح طموحات إيران، تحوّل بعد 2003 إلى خاصرة رخوة مكّنتها من اختراق المشروع العربي وتثبيت أقدامها في قلب المنطقة. من كونه “الوحش المتمرد”، صار العراق هو “كعب أخيل” الأمني والسياسي في معادلة الشرق الأوسط الجديدة.
سوريا… عقدة الهلال الشيعي
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تحوّلت سوريا إلى ساحة مركزية في المشروع الإقليمي الإيراني، حيث سعت طهران إلى الحفاظ على نظام بشار الأسد كحليف استراتيجي وضمان استمرار نفوذها في المنطقة. في السنوات الأولى من الصراع، قدمت إيران دعماً مالياً وعسكرياً كبيراً للنظام، شمل إرسال مستشارين من الحرس الثوري وتجنيد مقاتلين من ميليشيات طائفية متعددة الجنسيات كلواء فاطميون، زينبيون، وحزب الله اللبناني.
هذا التدخل، وفق تقرير لمعهد Understanding War، لم يكن فقط لحماية النظام، بل لتحويل سوريا إلى نقطة ارتكاز لوجستية وإيديولوجية ضمن مشروع “الهلال الشيعي” الممتد من طهران إلى بيروت، وقد وفّر لإيران طريقاً برياً لنقل الأسلحة والذخائر إلى حزب الله، مما جعل سوريا “رئة استراتيجية” لنفوذها في المشرق.
لكن الانخراط الإيراني في سوريا لم يكن دون تكلفة. فمع تصاعد الصراع وتعقيداته، أصبح الوجود الإيراني مكشوفاً، وتعرّضت قواعده وميليشياته لقصف جوي متكرر من قبل إسرائيل، التي تعتبر أي تموضع عسكري لإيران في سوريا تهديداً مباشراً. كما ساهمت هذه الحرب الطويلة في إنهاك الحلفاء المحليين لإيران، لا سيما حزب الله، الذي تكبّد خسائر بشرية وأعباء مالية متزايدة.
وإلى جانب الخسائر العسكرية، واجهت إيران أزمة في شرعنة وجودها الإقليمي، خاصةً في ظل الحراك الشعبي في كل من لبنان والعراق، الذي طالب بإنهاء النفوذ الإيراني والتدخل في السياسات المحلية. وهكذا، تحوّلت سوريا من منصة توسيع إلى عقدة استراتيجية، وبدأ يتضح أن كلفة الهيمنة أكثر فداحة مما خُطط له في طهران.
الثورة تفرض كلمتها
في خضم ثنائية القطب الحادة التي هيمنت على العالم في السبعينيات والثمانينيات، حاولت إيران، بطموحها الثوري، أن تكون قوة إقليمية، مستغلة شعار “لا شرق ولا غرب” لكسر الاستقطاب الأمريكي–السوفييتي. لكن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، سلّح العراق ليكون “كعب أخيل” إيران في حرب مدمرة (1980–1988).
هذا الوحش العراقي، الذي غذته يد الغرب، تضخم فغزا الكويت (1990)، ليصبح تهديداً جديداً أُزيل بحرب الخليج الثالثة (2003). من رحم هذا الدمار، نهضت إيران مجدداً، مستثمرة الفراغ العراقي لتوسيع “الهلال الشيعي” من قم إلى بيروت عبر ميليشيات شيعية وحزب الله.
سوريا، الحلقة المفقودة، أُكملت بعد 2011، عندما فتح نظام الأسد أبوابه للميليشيات الإيرانية لقمع الثورة، مكرّساً محور المقاومة. لكن الثورة السورية، بإصرارها، فرضت كلمتها في ديسمبر 2024، إذ أسقطت الأسد وقطعت الجسر الإيراني إلى لبنان. تزامن ذلك مع ضربات إسرائيلية أضعفت حزب الله، وانتخاب لبنان رئيساً يدعو لحصر السلاح بيد الدولة، معلناً بداية نهاية النفوذ العسكري الإيراني.
هكذا، وسّع سقوط الأسد “الشرخ الأوسط”، مخلفاً إيران عاجزة، ومفسحاً المجال لإعادة رسم المنطقة، بينما تبقى سوريا تنتظر إعماراً يعيد لها نبضها.