سياسة
واصل حميدة
في سوريا، لا تزال آثار الحرب تفرض وجودها رغم سقوط نظام الأسد. فبعد أكثر من أربعة عشر عامًا من العنف والانقسامات والانتهاكات، لم تعد سوريا بلاد الأبنية المهدمة فقط، بل صارت أيضًا وطن الذاكرة المنهكة. ذاكرة لم تُروَ بعد، ولم تجد مساحة للإنصاف أو فسحة للاعتراف. في ظل استمرار التوترات وانفجار الاحتقان هنا وهناك، لم يعد السؤال المطروح: “هل نحتاج إلى عدالة؟” بل أصبح: “أي عدالة نريد؟”
العدالة الانتقالية ليست مجرد أدوات للمحاسبة أو تعويضات للضحايا. إنها جهد جماعي للاعتراف بالحقائق المؤلمة، وبناء ذاكرة وطنية تتسع للجميع. فالدول التي خرجت من صراعات دامية، مثل جنوب أفريقيا وكولومبيا ورواندا، أثبتت أن العدالة الانتقالية هي مدخل لإعادة تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة. إنها لحظة تصالح لا تعني النسيان، بل مواجهة الماضي من أجل المستقبل.
في الحالة السورية، تبدو الحاجة للعدالة الانتقالية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. ليس فقط بسبب ضخامة الجرائم والانتهاكات، بل لأن الحرب، رغم تعقيدها، لم تُنتج حتى الآن أي إطار جامع لمعالجة الماضي. فسوريا لا تعاني فقط من الدمار المادي، بل من غياب آلية لمعالجة التدمير المعنوي والنفسي والاجتماعي الذي طال كل بيت.
في حديث يتجاوز التجربة الشخصية إلى الرؤية العامة، تسرد الصحفية والناشطة السورية زينة شهلا، وهي من الناجيات من الاعتقال، تأملاتها في مفهوم العدالة الانتقالية، مؤكدّةً أن تحقيقها لم يعد ترفًا سياسيًا، بل شرطًا ضروريًا لإنقاذ سوريا من دوامات العنف المتكررة.
تُقرّ شهلا بأن مشهد الانتهاكات في سوريا معقد، إذ لم يقتصر على طرف واحد، لكنها تركز على أهمية البدء بخطوات عملية، حتى وإن كانت جزئية، باعتبارها إشارات أمل لعائلات الضحايا. تقول: “نحن لا نبحث عن عدالة مثالية، بل عن خطوات واقعية تُشعر الناس بالأمان وتؤكد أن الانتهاكات لن تتكرر”.
ترى زينة أن العدالة الانتقالية لا تقتصر على المحاسبة فقط، بل تتطلب أيضًا الوضوح في تحديد المسؤوليات، والاعتراف بكل المظلوميات دون تمييز، إذ يرى كل طرف نفسه الضحية الأكبر. وتؤكد أن العفو عن مرتكبي الانتهاكات الكبرى يتعارض مع مبدأ العدالة.
الواقع السوري المعقد يجعل من مسألة العدالة تحديًا بالغ الصعوبة. الأطراف متعددة، والانتهاكات موثقة من جهات متباينة، والتجاذبات السياسية ما زالت تسيطر على الحاضر. غير أن هذا التعقيد لا يبرر التأجيل، بل يدعو إلى تصميم مسار للعدالة يكون مرنًا، واقعيًا، ومتدرجًا. عدالة لا تقوم على الانتقام، بل على الاعتراف بالحقيقة، وضمانات عدم التكرار.
العدالة الانتقالية في سوريا لا يمكن أن تكون استنساخًا لتجارب أخرى، لكنها قد تستفيد منها لتجنب أخطائها. فمثلاً، تجربة جنوب أفريقيا ورغم إشادة كثيرين بها، تعرضت للانتقاد كونها منحت العفو لمرتكبي جرائم بشعة مقابل اعترافهم، ما أنتج “عدالة ناقصة” في نظر بعض الضحايا. سوريا بحاجة إلى عدالة انتقالية تصممها القوى المدنية والسياسية والضحايا أنفسهم، بحيث لا تقتصر على المحاكمات، بل تتضمن الإصلاح المؤسسي، جبر الضرر، والتوثيق، وحفظ الذاكرة.
تتابع الصحفية زينة: “ما نوع العدالة القادرة على أن تعيد سقفًا لعائلة دُمّر منزلها، أو تطمئن ذوي المفقودين؟”، موضحة أن العدالة هي مدخل أساسي لإعادة بناء الثقة في المجتمع ومؤسساته. وهي ليست عبئًا على الاستقرار، بل شرط له. وتقول: “إذا لم تبدأ عملية المحاسبة، حتى بأدوات بسيطة، فإن سوريا ستبقى عالقة في دائرة العنف”، مشيرة إلى غياب أي خطوات جدية منذ سقوط النظام.
في الأشهر الأخيرة، سمع الشارع السوري عن اعتقالات طالت شخصيات بارزة متورطة في الانتهاكات، مثل عاطف نجيب ومحمد الشعار. لكن مصيرهم ظل مجهولًا، كما بقيت التحقيقات غامضة. ترددت أسماء أخرى، كـ محمد حمشو وفادي صقر، الذين يُقال إنهم لا يزالون يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، ما زاد من غضب الشارع وألم عائلات الضحايا. هذه الحالة من الإفلات من العقاب تعمق شعورًا عامًا بأن العدالة مؤجلة، إن لم تكن ملغاة.
تختم زينة حديثها: “لن نخرج من هذا الجحيم إلا بقرار وطني جامع بأنّ العدالة ليست رفاهية، بل طريق النجاة”.
في لحظات التحولات الكبرى، اختارت بعض الدول بناء سردية عدالة، ولو جزئية، بينما دفنت دول أخرى الحقيقة تحت غبار التسويات السياسية.
في لبنان، وبعد الحرب الأهلية التي انتهت عام 1990، صدر قانون عفو عام أغلق ملف الانتهاكات دون أي تحقيق أو محاسبة. بل تحول زعماء الحرب إلى قادة سياسيين، بينما ظل المفقودون مفقودين، والضحايا تُركوا دون إنصاف ليتأقلموا مع النسيان الإجباري.
هذه التجربة اللبنانية لا تزال شاهدة حية على ما يمكن أن يحدث حين تُستبدل العدالة بالتسويات، وحين يُطلب من الضحايا أن ينسوا دون أن يُنصفوا. لم تُبنَ ذاكرة جماعية في لبنان، بل تم تفكيكها عمدًا، ما جعل البلاد عرضة لتكرار الانفجار في كل أزمة. فهل نكرر في سوريا هذا النموذج القائم على طمس الحقيقة؟
يرى سليمان أحمد (اسم مستعار)، وهو ابن الساحل السوري الذي شهد خلال الأسابيع الماضية أحداثًا دامية، أنّ العدالة الانتقالية تمثل ضرورة لا خيارًا، محذرًا من خطر تحويلها إلى أداة انتقامية بيد المنتصر. ويقول: “من دون عدالة انتقالية، لن نستطيع تجاوز ما عشناه طوال أربعة عشر عامًا”، مشددًا على أن استمرار التجاهل أو الانتقائية في معالجة الانتهاكات سيُبقي حالة الانقسام قائمة ويمنع أي مصالحة حقيقية. ويضيف: “أخشى أن تتحول العدالة إلى وسيلة للمنتصر، تُطبق فقط على من ارتبط اسمه بالنظام، بينما تُهمل الانتهاكات التي ارتكبتها فصائل أخرى في مناطق مختلفة”. لذلك، يدعو إلى عدالة لا تستثني أحدًا، ويذكر بالضحايا في دمشق، وحمص، وعدرا العمالية، وريف اللاذقية، إضافة إلى ضحايا الأحداث الأخيرة في الساحل. ويرى أن المدنيين دفعوا الثمن من جميع الأطراف.
تجربة إسبانيا بعد الحرب الأهلية تعد مثالاً على فشل العدالة الانتقائية، حيث لجأ نظام فرانكو إلى محاكمات استعراضية طالت خصومه فقط، بينما بقيت الانتهاكات التي ارتكبها النظام نفسه طيّ النسيان، ما أبقى الانقسام مشتعلاً لعقود.
يشدد سليمان على أهمية تجنب العدالة الانتقائية في الحالة السورية، مطالبًا بعدالة تُنهي الحلقة المفرغة من الانتقام والكراهية. وينوه إلى هشاشة القضاء السوري حاليًا، وافتقاره إلى القدرة على قيادة مسار عدالة انتقالية حقيقية. يقول: “لا نعرف من يتحكم بالقضاء اليوم، ولا المرجعية التي ستحاكم من ارتكبوا الجرائم، وهل ستطال العدالة جميع الأطراف؟”، ويقترح حلًا يتمثل في إشراف دولي محايد ومستقل، يضمن النزاهة. وفي ختام حديثه، يؤكد أن العدالة ليست للثأر بل للشفاء. ويقول: “إن طُبّقت بشكل نزيه، يمكن أن تصبح أداة للمصالحة، لا للانتقام، تُداوي الجراح وتمنح الأمل للسوريين بأن الغد يمكن أن يكون أفضل”.
بعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، وجدت البلاد نفسها أمام جهاز قضائي منهار، فأُنشئت محكمة جنائية دولية بالتوازي مع محاكم محلية تُعرف بـ “الغاشاكا”. لكن كلا المسارين واجه انتقادات حادة: الأولى بسبب بطئها وانتقائيتها، والثانية لافتقارها لضمانات العدالة. كثير من الضحايا لم يشعروا بالإنصاف، وعلى السوريين محاولة عدم تكرار تلك الأخطاء.
تخشى السيدة سوسن عريشة على أطفالها من أن يعيشوا مستقبلاً تجربة الفقدان والتغيب القسري ذاتها التي عاشتها بسبب نظام الأسد. هي أخت وزوجة لمغيبين، بدأت رحلتها المؤلمة مع اختفاء زوجها طارق حلاق في الشهور الأولى من الثورة السورية، مروراً باعتقال شقيقها الناشط الإعلامي يزن عريشة عام 2014، وصولاً إلى تبنيها لدور فاعل في دعم أسر المعتقلين والمغيبين قسراً.
لا تتحدث سوسن عن مأساة شخصية فقط، بل عن رؤية شاملة للعدالة في سوريا. تقول: “أن تفقد من تحب دون أن تعرف مصيره، تجربة لا يمكن وصفها. كنت حاملاً، أربي أربعة أطفال وحدي، ولا أملك جواباً عن مصير زوجي.”
تحول الألم مع الزمن إلى دافع للعمل، خصوصاً بعد اختفاء يزن الذي كان سندها: “اعتقاله كسرني، لكنني قررت أن أستمر من أجله ومن أجل والدتي التي تدهورت حالتها النفسية بعد غيابه.”
بالنسبة لسوسن، العدالة ليست خياراً سياسياً بل حق إنساني لا بديل عنه. تشدد على أن “العدالة لا تعني الثأر، بل المحاسبة ضمن مسار قانوني نزيه”. وتؤكد أن تجاهل ملف المعتقلين سيُبقي آلاف الأسر رهينة الألم واللايقين، لذا يجب أن يكون ملف المعتقلين في مقدمة الأولويات.
تدعو سوسن إلى تعويض شامل للضحايا، ليس فقط مادياً بل نفسياً واجتماعياً، والاعتراف الرسمي بالمظلومية. وتقول: “نحن لا نبحث عن الانتقام، بل عن اعتراف ومعالجة. تعويض العائلات وإعادة تأهيلهم جزء من العدالة، وهو أمر لا يمكن تجاهله.” وتدعو إلى إنشاء مؤسسات متخصصة بشؤون المغيبين يكون لعائلات الضحايا دور أساسي فيها، لتقدم الدعم القانوني والنفسي للعائلات ولتوثق الشهادات والحقائق: “نحتاج إلى إطار مؤسسي يحفظ هذه الذاكرة، ويحولها إلى حافز لبناء مستقبل أكثر إنصافاً.”
تختم سوسن حديثها قائلة: “نعم، نؤمن بالقدر، لكن هذا لا يعني السكوت. نريد حياة كريمة لأطفالنا، مبنية على العدالة والكرامة، حتى لا يضطروا إلى حمل الأعباء ذاتها التي حملناها.”
تجربة “هيئة الإنصاف والمصالحة” في المغرب، التي أُنشئت عام 2004 بعد عقود من القمع خلال ما عُرف بـ “سنوات الرصاص” في عهد الملك الحسن الثاني، قدمت نموذجاً للعدالة الانتقالية غير القضائية، تمحور حول كشف الحقيقة وجبر الضرر الفردي والجماعي. وعلى الرغم من أن هذه التجربة لم تؤدِّ إلى محاكمات جنائية، فإنها أسفرت عن اعتراف رسمي بانتهاكات حقوق الإنسان، وقدّمت تعويضات مادية ومعنوية للضحايا، إضافة إلى شهادات علنية أعادت شيئاً من الكرامة للمتضررين. وقد حظيت التجربة بإشادة محلية ودولية، لا سيما فيما يتعلق بكشف المقابر الجماعية، وتحويل مراكز الاعتقال السابقة إلى فضاءات للذاكرة، وإطلاق برامج إصلاحية ذات طابع تربوي وتشريعي. ومع ذلك، ظلّت محل انتقاد وتحفظ من قِبل بعض الضحايا ومنظمات حقوقية، خاصة فيما يتعلق بغياب المحاسبة القضائية.
بعد خمسة أشهر من تحرره من سجون نظام الأسد، لا يزال عبد المنعم عبد الحكيم الكايد، أحد المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا والأفرع الأمنية، ينتظر بداية حقيقية لمسار العدالة الانتقالية. بالنسبة له، لم يحدث شيء يُذكر حتى الآن، لا من قبل الدولة، ولا من المجتمع الدولي، ولا حتى من منظمات حقوق الإنسان التي ترفع شعار العدالة. يقول الكايد: “العدالة لن تتحقق ما لم تبدأ المحاسبة الفعلية”، مشدداً على أن أي حديث عن مستقبل لسوريا لا يمكن أن يكون ذا معنى إن لم يشمل محاسبة المسؤولين المباشرين عن جرائم التعذيب، سواء كانوا محققين، أو ضباطاً، أو رؤساء أفرع أمنية.
لكن العدالة، من وجهة نظره، لا يجب أن تقتصر على من ارتكب الجريمة داخل جدران الزنازين. هناك أيضاً سماسرة ووسطاء ممن استغلوا حاجة الأهالي ويأسهم، وباعوا لهم الوهم مقابل مبالغ مالية ضخمة، واعدين بإطلاق سراح أحبائهم أو تقديم معلومات عن مصيرهم. بالنسبة لهؤلاء، لا تقل المسؤولية الأخلاقية والجنائية عن منفّذي الجرائم أنفسهم، ويجب أن تشملهم المحاسبة ضمن إطار قانوني يضمن عدم تكرار هذه المآسي.
كايد يرى العدالة شاملة، تبدأ من داخل السجون ولا تنتهي عندها. فهي تمتد أيضاً إلى أولئك الذين اتخذوا قرارات القصف والتهجير والتجويع، وشاركوا في إنتاج المأساة السورية بأبعادها المختلفة. “لا أحد يستطيع تعويضنا عن سنوات الألم”، ويتابع: “لكن يمكن للمجتمع الدولي أن يضمن لنا الحد الأدنى من الكرامة”، مضيفاً أن هذا الضمان لا يكون فقط بالكلمات، بل بخطوات عملية تشمل الدعم الصحي والنفسي، وتوفير فرص عمل، وتعويضات تُمكّن المعتقلين السابقين من حياة مستقرة تحفظ كرامتهم.
واقع ما بعد الخروج من السجن بالنسبة لعبد المنعم ليس أقل قسوة. فهو، ككثير من الناجين، خرج بجسد منهك، وقدرات بدنية ونفسية متآكلة، بلا دخل أو رعاية أو أي احتضان مؤسسي. وحتى اليوم، لا توجد جهة رسمية أو أهلية تتكفل بمتابعة قضايا المعتقلين السابقين بشكل ممنهج أو توفر لهم الحد الأدنى من الرعاية، يقول الكايد: “نعم، بعض الأفراد يقفون إلى جانبنا، لكنّ هذا لا يكفي. فالمسألة ليست مسألة مساعدة وإحسان، بل حقوق. وما مررنا به ليس تجربة فردية بل جرح جماعي يمسّ المجتمع كله ويهدد أي إمكانية لبناء السلام إن تُرك دون معالجة.”
في نهاية حديثه، يدعو الكايد إلى نموذج عدالة انتقالية لا يقوم على الثأر، بل على الاعتراف والمحاسبة والإصلاح. نموذج يُعيد التوازن المفقود، ويمنع تكرار الجرائم، ويمنح الناجين شعوراً بأن ما جرى لهم لم يُمحَ أو يُغفل. يقول: “قصتي ليست استثناء. هي قصة آلاف، بل عشرات الآلاف. كلنا ننتظر اعترافاً صادقاً بمعاناتنا، وخطوات تُعيد لنا بعضاً من حقوقنا المسلوبة، وتُرمّم ما يمكن ترميمه من أرواحنا.”
لا تزال العدالة الغائبة في سوريا اليوم تُشكل العائق الأكبر أمام أي مسار جدي نحو الاستقرار، وهو ما يؤكده الدكتور أحمد سيفو، الباحث في القانون الجنائي الدولي، الذي يرى أن العدالة الانتقالية ضرورة قانونية وأخلاقية لإنهاء حقبة الإفلات من العقاب وبناء مجتمع قائم على الثقة والكرامة.
يُشير الدكتور سيفو إلى أن توصيف النزاع السوري وفق القانون الدولي تطور خلال السنوات الماضية. فبينما بدأ كصراع داخلي، تحوّل لاحقاً إلى نزاع دولي مع دخول قوى خارجية كروسيا وإيران، ما أدى إلى تصاعد الانتهاكات، وارتكاب نظام الأسد وحلفائه “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية” و”جرائم إبادة جماعية”، موثقة ضمن تقارير أممية أثبتت وجود أوامر ممنهجة صادرة عن مستويات عليا في القيادة.
يشدد الدكتور سيفو على أن العدالة الانتقالية ليست مساراً انتقائياً أو مشروطاً بالحل السياسي، بل هي منظومة متكاملة تقوم على أربعة أعمدة مترابطة:
ويؤكد أن العدالة الانتقالية لا يمكن استيرادها كنموذج جاهز من الخارج، بل يجب أن تُصمَّم محلياً، انطلاقاً من حاجات المجتمع السوري وخصوصياته، مع الحفاظ على المبادئ العالمية لحقوق الإنسان. ومن هنا تأتي أهمية إشراك الضحايا والناجين في صياغة هذا المسار، لأن مشاركتهم شرط أساسي لنجاح أي عدالة حقيقية.
فيما يتعلق بالعفو، يشدد الدكتور سيفو على أن التسويات السياسية لا يمكن أن تقوم على تجاهل الجرائم الكبرى أو منح العفو لمن ارتكبها. يقول: “العدالة لا تعرف المساومة على الدم، ولا يجوز تقديم العفو كجائزة للمجرمين”، ويضيف، مستشهداً بتجربة سيراليون، حيث رفضت الأمم المتحدة العفو عن المسؤولين عن الجرائم رغم توقيع اتفاقات السلام.
يرى الدكتور سيفو أن دور المحكمة الجنائية الدولية في الحالة السورية ما يزال موضع نقاش، بسبب تعقيدات سياسية وغياب الإحالة من مجلس الأمن، لكن هذا لا يعني غياب الخيارات. إذ يمكن التفكير بإنشاء محاكم خاصة أو هجينة، بدعم من المجتمع الدولي، تتيح محاسبة الجناة ضمن آلية تراعي الواقع السوري، كما يشير إلى أن أي انتقال سياسي في سوريا سيكون هشاً ما لم يُرافقه مسار عدالة حقيقي.
العدالة الانتقالية ليست عبئاً يُؤجَّل إلى ما بعد “الاستقرار”، بل هي شرطه الأساسي. من دون عدالة، لا يمكن ترميم النسيج الاجتماعي، ولا استعادة الثقة بين المواطن والدولة، ولا ضمان عدم تكرار الجرائم. يجب أن تُبنى العدالة على أسس شاملة، تشاركية، ووطنية المنشأ، مدعومة من المجتمع الدولي دون وصاية. فالعدالة لا تُفرض، بل تُصاغ محلياً، وتُصمَّم لتُجيب على أسئلة السوريين وتراعي واقعهم وتعقيداته. الاعتراف بالضحايا وتوثيق معاناتهم ليس فقط من أجل الماضي، بل من أجل حماية المستقبل. فالمحاسبة ليست فعلاً للثأر، بل آلية للوقاية، وردّ الاعتبار، وإعادة بناء الثقة الجماعية.
ورغم تعقيدات المشهد السوري وصعوبة الوصول إلى الشهود والأدلة، فإن نافذة العدالة لا تزال مفتوحة. ويمكن للضغط المدني، إلى جانب عمل المنظمات الحقوقية، أن يمهد لمسار عملي يشمل:
مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على إنكار الماضي أو تجاوزه، بل على مواجهته بشجاعة ومسؤولية. فـ سوريا لن تبنى دون عدالة، ولا عدالة دون محاسبة.