تأملات

587 يوماً تحت الإبادة.. وأنا أكتب!

مايو 16, 2025

587 يوماً تحت الإبادة.. وأنا أكتب!

 

587 يوماً على الحرب، يبدو مأساوياً جدا أن أخبركم أنني مازلت أكتب من تحت الإبادة في غزة، ولا أحد يتخيل ماذا يعني أن تمضي 587 يوماً تحت الحرب، حتى نظرتُ هذا الصباح إلى السماء وشعرت كم أننّي أشتاق للنظر ببطء ولطف إلى الصبح وهو يتجلّى في السماء بزرقته البِكر، غالباً تحت الإبادة لا تطول رجاءاتي، قصفٌ من طائرة f16 ومؤخرا من طائرة f35، يجعلني أبتلع لساني طويلاً، وأقبض على جمر قلبي بكفي بينما هما يحترقان معاً بصمت وقهر.

حتّى وأنا أنظرُ للسماءِ في لحظةٍ ظننتُ أنني أستطيع أنْ أحظى بفرصةٍ سريعة للتنفس من صدر السحابات البيضاء، يغتالُ صوتُ غارةٍ عنيفةٍ اللحظة، تنتابني الحالة الشعرية كمخدرٍ سريع مؤقت فأكتب:

( أيتها السماء أنتِ قدرنا الأزليّ، امنحينا قليلاً من الوقت كي أكتب لكِ شيئاً آخر بعيداً عن الموت والانتقال إليك، عن لونكِ وأنت تسرقينه من البحر، عن مذيع النشرة الإخبارية وهو يستلهمكِ في لون ياقته وقلم حبره، عن شالي الأزرق الحريريّ الذي أحبّه وأفضّل تنسيقه من حقيبتي الزرقاء اللامعة، عن لون غلاف كتابي المفضّل، وعن لافتة كرتونية مكتوب فوقها ( طفل شعره أسود يلبس بلوزة زرقاء ” مجهول الهوية ” ) كنتُ أريدُ أن أستمتع في زرقتكِ أيها السماء، حتى اغتالتني العبارة الأخيرة ..


هل تغتال الحرب الشعراء، وهل تصيب الروائيين بحروق دائمة، وهل تفسد قهوة الرسامين التشكيليين، وهل تصيب العازفين برعشةٍ قاتلة ؟

أسأل هذه الأسئلة وأنا خائفة، أتفقد يدي، لأتأكد أنني مازلت أكتب، ثمَّ أضع يدي على حلقي لأتفقد جريان الهواء فيه، أجرب النطق لأسمع صوتي، وأكرر ذلك لأتأكد من نطقي للحروف بشكل جيد، أحاول أن أنظر للسماء مجدداً لأقول في لحظةٍ أجددُ بها ثباتي الشاعريّ

( السماء

ز … ر …. ق …. ا …. ء )

لكنني لا أنطقها كذلك

أسمع صوتي ينطقها (السماء حمراء).


كيف تتغيّر شعرية السماء في روحي المتقدة بالجمال والشعر؟ أقنع نفسي بأنّها زلزلة الحرب، وأنني متأثرة بهذا الزلزال الكوني من حولي

من أين تنزل الصواريخ؟ أسأل نفسي بينما أحدّق هذه المرّة بثبات في السماء، ينزل صاروخٌ آخر فأفقد ثبات نظرتي تلك، بالتأكيد لن تفتح الغيوم رحمها وتنجب الصواريخ، إنّها الطائرات الحربية تفتح بطونها المترهلة وتلقي علينا أطنان القنابل والصواريخ، ولا أعرف كيف يستطيع الطيّار أن يضغط بسبابته فوق زر الإطلاق، وهو يرى خيامنا المتهالكة وأطفالنا الباحثين عن رغيف خبز، ونساءنا المتعبات، هل سبابته من لحم ودم ؟ يحاصرني السؤال فأصرخ في الهواء، في السماء، أيها الجندي الذي بقصفنا منذ587 يوما ، هل سبابتك من لحم ودم؟ هل تستطيع أن تمسك بتلك السبابة زجاجة ماء، هل يمكن أن تضغط فيها على زر السيلفي في هاتفك المحمول وأن تلتقط صورة مع والديك أو طفلتك، هل تختار فيها لون قميصك المفضّل؟ هل تشير بها نحو طبق تحبّه من منيو الطعام، وهل تصافح بها قاتلاً مثلك؟


تنزل عدة صواريخ متتالية، ربما 7 صواريخ بشكل جنوني وتتابعي، اعتدنا أن نسمّي هذه الضربة في غزّة بالحزام الناريّ، لأنّه يطوّق خاصرتك بالنار، وأنت بين خيارين إمّا أن تذوب منصهراً وسط النار، أو أنْ تملك الشجاعة لتمشي فوق النّار وتحدث اختراقاً في الدائرة

والحقيقة أنّ شعب غزّة على مدار أكثر من عام ونصف، ما بين محترق وسط النار أو سائرٍ فوقها، وفي لحظة إدراكٍ عرفتُ أننّي الآنَ أمشي على النار

ماذا فعلت الحرب بذائقتي الشعرية؟


أستطيع أن أقول بأنّها ربّت الحنين في داخلي، جعلت كلَّ لحظة من ذكرياتي مرادفاً لحنين لا نهائيّ، متى اجتاحني غرقت

صورة مدرج الجامعة، مكتبتي في المدرسة، حفلات زميلاتي في المدرسة، أعياد ميلاد أطفالي الأربعة، سيلفي مرتبك أول، سيلفي مرتبك ثانٍ، سيلفي أفضل ثالث، أتذكر فجأة إنّها الحرب لا تمنحك فرصة صورة سيلفي مرتبك رقم 1!

لا وقت حتى لتلك الالتقاطة، وعلى الرغم من هذا، حاولتُ أن أحظى بصورة سيلفي، لكنّ الركام كان يحيطني، في كل تجاه هنالك ركام ومنازل محروقة، حاولت أن أغيّر الزاوية، أصنع فلترا ما قد يزيل ذلك الدمار من حولي، لم أفلح للأسف، في كلّ مرّة كان الركام هو خلفية الصورة، لكنّ صورتي ثابتة، عدت إلى صور أخرى في هاتفي، وجدت صور لسيلفي لي قبل السابع من أكتوبر، قلت بدهشة غريبة إنّها تشبهني، لكنّ خلفيات الصور كانت تتغيّر، ولم يكن هنالك ركام من حولي، وهكذا عرفت أنّها ليست مجرّد خلفية صورة، إنّها أيضاً ذكريات محروقة في ذاكرة أصحاب تلك البيوت المدمرة، لذلك وجدتني فجأة أحمل ذاكرتي الطافحة بالحنين، وأعرف في لحظة إدراك موجعة أنّ الركام الذي خلفي هو ذاكرة أرض مجروحة منذ عام 1948،

أنظر إلى صورتي تلك بين ركام الحرب، وأسمعُ صوتي يقول:

أيتها السماء الحمراء

إننّي تأكدتُ الآن أننّي ابنة هذه البلاد النازفة من أرضها وسمائها وشجرها وحجرها وناسها

وأنّكِ أيضاً

(بيتي).

شارك

مقالات ذات صلة