آراء

سلاح إسرائيلي.. صُنع في الهيئة العربية للتصنيع!

مايو 15, 2025

سلاح إسرائيلي.. صُنع في الهيئة العربية للتصنيع!

على معبر رفح، وبمحاذاة الخط الفاصل بين غزة وسيناء، يقف الجنود المصريون منزوعي السلاح الثقيل، مجردين من آليات حقيقية رادعة، ومن أدوات تجدي نفعًا أمام الآلة الإسرائيلية العملاقة، التي يحترمها نظام مصر، ويصغر أمامها، بذرائع اتفاقات عسكرية وتفاهمات ضمنية، وحين يزيد ذلك السلاح فإنه يكون مدعاةً لعشرين مقالا استخباريا في تايمز أوف إسرائيل، ويديعوت أحرنوت، وتوافقات تحت الطاولة، وأخرى مفهومة لا تحتاج لا إلى طاولة ولا منضدة، فثمة سرير واسع يكفي، لتفهم أن استعراض “الجرأة” المزيف، بزيادة التسليح على الحدود، يقابله “احتلال” إسرائيلي فعلي لخط داخل المنطقة المحظورة، و”انتهاك” لكل البنود بأي اتفاق نعلمه ولا نعلمه، فلا فيلادلفيا سلم، ولا سيادة الجوار، واسألوا بوابة رفح، وجنود التأمين، يأتكم الجواب اليقين.


لكن في ذلك المشهد المعقَّد في سهولته، لدرجة أن الجاهل يستطيع قراءته، والغبيّ لا يحتاج تشغيل عقله ليستوعبه، وتستوي بين يديه قدرات القراءة والحكم والتحليل بين العامة والنخبة، ثمة سلاح فائق بات في جعبة جيش الاحتلال الإسرائيلي، يستخدمه بقوة ويعتمد عليه بكفاءة، وينجز له انتصارات على الأرض كان ليعجز عنها لولاه، المفاجأة أنه سلاح خرج من الهيئة العربية للتصنيع! من رحم صنع القرار السيادي على أعلى مستوى وترجمته إلى شيء عملي، سلاح ليس يشبهه سلاح، في وضاعته، وفي براعته، في انخفاض تكلفته، وفي عظم مكاسبه، في سلاسة حمله، وسلاسة التهرب منه، سلاح الجريمة الأفضل، هو ذلك الذي لا يحتفظ ببصماتك عليه، لكن الجميع يعرف منشأه، حينها، لن يكون أمامهم سوى متهم واحد، هو المصدر.


قصة ذلك السلاح نشأت منذ وقت طويل، كان فكرةً غير قابلة للتطبيق بدايةً، واستمر كذلك لعقود، حيث لدى مصر ما يمنعها -تحت أي نظام- من أن تمنح عدوها التاريخي هديةً على طبق من ذهب كهذا، كأن تفشي سرا عسكريا في عز الحرب لمن يقاتلها، ليكون ذلك بمثابة انتحار، تملك الأمن القومي لبلدك، تدفع في سبيله الغالي والنفيس، تحرسه دماء جوّادة على مدار سبعين سنة، ثم فجأةً تعطي المفتاح لجيش الخصم، لتنفق أضعاف تلك الدماء في حماية أمنك القومي مجددًا.. فأي عته مجنون هذا؟

السلاح الذي برز فجأةً، ولم تكن “إسرائيل” تضعه في حسبانها حين بدأت عدوان الإبادة المدمر على غزة، هو أن تكون بوابة مصر فرصة لا تحديا، فرصةً لتحقيق أهداف الحرب أكثر، بدلا من أن تكون عقبةً أمام تحقيقها، فحين يقول يوآف غالانت إن هؤلاء “الحيوانات البشرية” لن يدخل إليهم وقود ولا كهرباء ولا طعام، كان يقصد ستة معابر إسرائيلية على غزة، أو أيا منها، لكن بالتأكيد، في أي نية أو قاموس أو تفسير أو حلم، لم يكن يقصد معبر رفح المصري، المتنفس الوحيد لأهل القطاع المقهور المحاصر، كان يتوعد بقطع الإمدادات من طرفه، وتجويع أهل غزة من الجهات الثلاث كلها، وإطباق الحصار على أنفاس الشعب المغدور، وفي باله أن النظام المقابل، حارس بوابة رفح، مهما بدا خائنًا، فإن عليه مواراة سوءته بورقة توت المعبر، ليعسّر المهمة “قليلًا” على “إسرائيل”، في معركة اعتبرتها منذ اللحظة الأولى، ولأول مرة منذ 1948، حربَ وجود، لأسهلها عليك، مهما كان كلب الحراسة مخصيًّا، فإن ذلك لا يمنعه من أن ينبح، لكن المفاجئ للجميع أنه لم يكتفِ بالخيانة، والجبن، والتواطؤ، بل إنه اعتزل النباح أيضًا، ولم يكلف نفسه شد قوائمه واستعراض عضلاته، لا شيء سوى اللعاب فوق ما يُرمى إليه.


“التجويع” كان الضربة القاصمة لظهور أهل غزة، ليس القصف الجنوني الإجرامي لكل شبر وبقعة، ولا التهجير القسري من منطقة لمنطقة، ولا اغتيال قادة المقاومة في الداخل والخارج، كل ذلكم يملك المقاوم أمامه ما يثبته ويربط على قلبه، فيربط جرحه ثم يقاوم، حين يستشهد أبوه، وحين يعتقل أخوه، وحين تنزح أمه، وحين يغتال قائده، لكنه لن يستطيع حمل السلاح بالكفاءة ذاتها، رغم رباطة الجأش الهائلة مع الجراح النازفة، بينما يربط حجرًا على بطنه، وبينما يعرف أن أهله وجيرانه لم يأكلوا لقيمةً، ولم يتذوقوا شربةً منذ أسابيع، وهم أنفسهم الذين يدعمونه، ويحتضنون نضاله المجيد، عسيرٌ عليهم أن يواصلوا بينما يتفنن العدو في قتلهم جوعًا، يقولون -رغم قهر التصور- اقتلونا قصفًا وحرقًا وذبحًا، ولا تقتلونا برؤية فلذات أكبادنا يتضورون جوعًا، يبكون يريدون العشاء، ولا حل سوى البحث لهم عن كفن بدلا من المعلبات!


سلاحٌ لم يكن يخطر في أحلى أحلام نتنياهو ووزرائه، ولم يكن ليخطر في أشنع كوابيس الغزي وتصوراته، لم يكن ليجرؤ عربي على تخيله، أن يتذرع النظام المصري بحجج كثيرة واهية، بينما تصدأ شاحنات المساعدات وتحمض دواخلها، رغم أن الاتفاقات هي ذاتها، لم تتغير عن أيام مبارك، الذي فعل ما فعل لكنه كان يدرك مدى خطورة غزة وأهميتها للأمن القومي المصري، بعيدًا عن “الإنسانية” حتى، وعن صورته كإنسان، وعربي، ومصري، ومسلم، الذي سيحاول أي ظالم ولو في ذروة عتوّه أن يحافظ عليها، ناهيك عن أيام مرسي حيث كان المعبر أشبه ببوابة في فسحة بيت غزة، يعبره العابرون متى شاؤوا وكيفما شاووا، ومن تحت الرفحين شرايين ممتدة لا تنقطع من السلاح والغذاء والدواء والوقود، شرايين لا تعترف بالاتفاقات ولا المفاوضات ولا الطاولة، هي خارج كل الحسابات، ولا يمسكها أحد، جمهورية تحت الجمهورية، وعلى مرآها ومسمعها، لكنها تعلم أهميتها في يدها، التي متى خرجت من يدها فإنما هي استحالت سلاحًا شنيعًا في يد عدوها، فمن أين للطارئين الجدد كل تلك “الخنزرة”؟! 


تجوع غزة، للتاريخ، بسلاحٍ مصري خالص، أهداه النظام المصري للعدو الإسرائيلي في ساحة الدنيا وعلى مرأى العالم، وعلى مرمى بصر العرب، في خيانة غير مسبوقة في أي عهد أو كتاب، وبينما يأكل المصريين الجوع أيضًا بفعل المجوِّع اللعين ذاته، فإنهم يقبلون من شدة الجوع أن يدخل بطونهم كل شيء إلا الحرام، بما في ذلك، أنهم من شدة الجوع سيأكلون ذات يوم أولاد الحرام أنفسهم، ليشعر الجميع، في مصر وغزة “بالهنا والشفا”.

شارك

مقالات ذات صلة