مشاركات سوريا

“تعفيش” الذاكرة

مايو 15, 2025

“تعفيش” الذاكرة

يمن حلاق

 

 

 

خرجت من سوريا في 2012، مباشرة بعد فك الحصار عن أريحا، حينها حملت معي حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الأساسيات فقط، كنت أعتقد أننا عائدون قريباً. أثناء الحصار، كانت خطوط الهاتف مقطوعة، لم يتسنَّ لنا التواصل مع العالم الخارجي، لذلك لم نكن قد سمعنا بمصطلح “التعفيش” بعد.

 

 

لا أعلم من ابتدع هذا المصطلح، لكنه يشير إلى عملية تتجاوز حدود النهب التقليدي، التي تقتصر على ما “خف وزنه وغلا ثمنه”، لتشمل “عفش” المنزل بأكمله، بما في فيه من أثاث وأدوات كهربائية وملابس وغيرها.

 

 

 

منذ 2012، ظهر التعفيش كخطوة تكميلية تتبع عمليات قصف المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة وإجبار سكانها على النزوح، ليقوم بعدها “المعفشون” من عناصر قوات النظام وميليشياته الرديفة، بنهب بيوت المدنيين وإفراغها بالكامل من محتوياتها، ثم يقومون بتصريف المسروقات لاحقًا في أسواق باتت تعرف بـ”أسواق التعفيش” أو “أسواق الحرامية”.

 

 

في البداية، شكلت المسروقات المعفشة حافزاً يشجع عناصر النظام على مواصلة القتال، لكن مع اتساع رقعة الدمار، تحول التعفيش إلى “بزنس” احتكره قادة الجيش والأمن، لا سيما وأنه لم يعد مقتصراً فقط على مقتنيات المنازل، بل شمل إكساءاتها الداخلية كذلك.

 

 

 

في هذه المرحلة، ظهرت مجموعات منظمة أُطلق عليها اسم “لجان التعدين”، وكانت مختصة باستكمال هدم المنازل التي تعرضت للقصف، واستخراج الحديد منها لبيعه في الأسواق. في ريف دمشق ودرعا، تبعت تلك اللجان بشكل مباشر للفرقة الرابعة. وفي أرياف إدلب وحماة وحلب، نشطت ورشات “هدم” متخصصة لتحطيم أسقف منازل المهجرين، وانتزاع الحديد منها، وذلك تحت إشراف ضباط الفرق العسكرية المنتشرة في تلك المناطق، وعلى رأسها الفرقة 25 بقيادة سهيل الحسن.

 

 

بالإضافة إلى الحديد، شمل التعفيش أيضاً كل ما يمكن بيعه من بنية المنزل التحتية، بما في ذلك الأعمدة وتجهيزات الحمامات والمطابخ وكابلات الحديد ومواسير المياه وبلاط الأرضيات والسيراميك، فضلاً عن الأبواب والنوافذ، بحيث لا يبقى من المنزل في نهاية المطاف سوى الأنقاض.

 

 

 

في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى التعفيش على أنه مجرد سياسة ممنهجة لسرقة ممتلكات المدنيين، فقد حمل أيضاً أبعاداً ودلالات سياسية واقتصادية واجتماعية.

 


من ناحية، شكل التعفيش واحداً من أعمدة اقتصاد الحرب، ومن ناحية أخرى، كان وسيلة لتدمير كل ما لم يدمره النزاع. بهدف نزع الإكساءات الداخلية، تم تدمير منازل المدنيين بشكل جزئي بحيث تصبح غير قابلة للسكن، أو بشكل كامل بحيث يتم طمس معالم الأحياء المعارضة. وهكذا، ضمن نظام الأسد استحالة عودة المشردين قسرياً إلى بيوتهم، الأمر الذي خدم سياسات التغيير الديمغرافي التي انتهجها في العديد من المناطق.

 

 

 

عدا عن ذلك، كان التعفيش عاملاً إضافياً ساهم في تعميق الشروخ المجتمعية بين السوريين، مع اتخاذه طابعاً طائفياً في بعض المناطق. فكما انتشرت عمليات القتل على الهوية، كان التعفيش على الهوية أيضاً. ففي حمص على سبيل المثال، بيعت المسروقات المعفشة من الأحياء السنية في الأحياء العلوية، ضمن ما كان يعرف بـ”سوق السنة”.

 

 

 

أسس التعفيش كذلك لفرض معايير أخلاقية جديدة تتناسب مع توحش المرحلة. لم تكن عمليات التعفيش تتم في السر، بل كانت علنية، وثقها عناصر النظام بالصور والفيديوهات. هذا التفاخر باللصوصية حول السرقة إلى فكرة مستساغة، وأسقط عليها طابع الاعتيادية، بل وجعلها مبررة بوصفها “مصادرة” لممتلكات “الإرهابيين”، الأمر الذي شجع بعض المدنيين على الانخراط بعمليات التعفيش، لا سيما مع انتشار العوز والجوع والبطالة وغياب المحاسبة.

 

 

 

خلال 14 عاماً، تهجر السوريون من أوطانهم، خسروا أرواحهم، فقدوا أحبتهم، وأضاعوا ما يزيد عن عقد من أعمارهم في بيوت لا ينتمون إليها.. أمام كل ذلك، لا تبدو الممتلكات المعفشة أكثر من مجرد خسارة متواضعة. مع ذلك، أعتقد أنها – وعلى غرار الخسارات الأخرى – غير قابلة للتعويض.

 


لم يكن التعفيش فقط غذاء لأمراء الحرب، ووسيلة لاستكمال الدمار، وإفقار المهجرين، ونخر المجتمع.. كان كذلك سرقة لروح منازلنا، واغتيالاً لذاكرتنا.

 

 

أسقف المنازل وجدرانها، ليست مهمة بحد ذاتها، لكنها شكلت يوماً ما فضاءً حمل أحلامنا، وآمن خوفنا، وكان شاهداً صامتاً على ما كنا عليه قبل أن نُقتلع من جذورنا.

 


ربما لم يبالغ ويليام جيمس – صاحب نظرية “الذات الممتدة” – عندما قال إن ممتلكاتنا البسيطة هي امتداد للماضي، وبالتالي فهي امتداد لذواتنا. تلك المقتنيات التي سرقها المعفشون من بيوتنا، أو دُفنت تحت الأنقاض التي خلفتها جرافات تجار الحديد، لا تحمل أهمية مادية هي الأخرى، لكنها سجلات تروي قصصنا، أدوات تمكننا من استحضار الزمن الضائع، ووسيلتنا الوحيدة للحفاظ على ذكرى من نحب. نحن ننتمي لبيوتنا ولأشيائنا الصغيرة، وبفقدانها خسرنا جزءاً من هويتنا.

 

 

 

لو كنت قد سمعت بمصطلح التعفيش قبل أن أخرج من أريحا، لحملت معي أجزاء من ذاكرتي في حقيبتي الصغيرة.. ربما كنزة صوفية حاكتها لي أمي، رواية “اسمي الأحمر” التي قرأتها خلال أيام تحت شجرة التين الضخمة في أرض جدي، ساعة اليد التي أهداني إياها أبي عند عودته من الكويت، وبالتأكيد الرسالة الوحيدة التي كتبتها لي جدتي بخط يدها.

 

 

 

أتخيل أنه بينما كان الأسد يخطط لتدمير حياتنا، توقف قليلاً.. فكر باحتمالية عودتنا، وأصابه الذعر، لذلك قرر وضع لمسات أخيرة ليتركنا بلا جذور إلى الأبد. أراد أن يتأكد من أن نعود بعد سقوطه إلى منفى جديد.. إلى أرض غريبة وباردة، وبيوت بلا ذاكرة.

شارك

مقالات ذات صلة