سياسة
بلال صطوف
في خطوة مفاجئة ومثيرة للتساؤلات، التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نظيره السوري في العاصمة السعودية الرياض، عقب يوم من إعلانه عن نيّته رفع العقوبات المفروضة على سورية؛ الأمر الذي أثار جدلًا واسعًا حول دلالات هذا القرار وسرعة استجابة الولايات المتحدة لمطالب بعض الدول الإقليمية، وعلى رأسها السعودية وتركيا وقطر. فهل دخلت المنطقة فعلًا في مرحلة جديدة من إعادة تشكيل التوازنات؟ وما الثمن السياسي والاستراتيجي الذي قد تكون سورية قد دفعته مقابل رفع هذه العقوبات؟
تعود جذور العقوبات الأمريكية إلى عام 1979، حين أُدرجت سورية على قائمة الدول الراعية للإرهاب. وتصاعدت وتيرة هذه العقوبات في عام 2004 مع صدور “قانون محاسبة سورية”، الذي فرض قيودًا صارمة على الاقتصاد السوري، ثم تضاعفت بشكل حاد بعد اندلاع الحرب في عام 2011، حين فرضت إدارتا أوباما وترامب عقوبات موسّعة استهدفت كيانات رسمية وشخصيات عسكرية، وبلغت ذروتها بصدور “قانون قيصر” عام 2019، الذي اعتُبر الأشد قسوة وفعالية في خنق الاقتصاد السوري ومنع أي تعاون خارجي مع نظام الأسد.
عقب سقوط نظام الأسد، بدأت الإدارة السورية المطالبة برفع هذه العقوبات، باعتبارها وُضعت نتيجة سلوكيات نظام الأسد البائد. في الحالات المعتادة، تتطلب عملية رفع العقوبات مسارات طويلة ومعقدة من التفاوض السياسي والتقييم القانوني، وغالبًا ما تكون مشروطة بإصلاحات جذرية في بنية النظام السياسي أو تغييرات جيوسياسية كبرى، ما يتطلب مسارًا طويلًا ومعقدًا من الإجراءات والجهود في سياق تدرج زمني يستمر لسنوات. لكن في الحالة السورية، وبعد أشهر قليلة فقط من سقوط نظام الأسد، ظهرت مؤشرات جدية على تحوّل في الموقف الأمريكي، وصلت إلى الإعلان عن رفع العقوبات. هذه السرعة اللافتة تطرح تساؤلات حول ماهية التغييرات التي دفعت واشنطن إلى اتخاذ هذا القرار.
يمكن فهم القرار الأمريكي في سياق التحولات الجيوسياسية التي يشهدها النظام الدولي، حيث تراجعت هيمنة القطب الأمريكي لصالح نظام عالمي متعدد الأقطاب. تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة تموضع استراتيجي في الشرق الأوسط يسمح لها بتقليص وجودها العسكري المباشر، وتركيز جهودها على مناطق تنافس أكثر أهمية في جنوب شرق آسيا وأوروبا الشرقية. رفع العقوبات عن سورية يأتي ضمن هذا المسار، كجزء من استراتيجية أمريكية لبناء شرق أوسط جديد قائم على الاستقرار وتخفيف حدّة النزاعات عبر دعم السلطات المركزية وتقليص نفوذ الجماعات غير الدولاتية.
وفي الإطار ذاته، لعبت الدول الإقليمية، خاصة الخليجية، دورًا محوريًا في تهيئة الأرضية السياسية لرفع العقوبات عن دمشق. تسعى هذه الدول إلى تحويل المنطقة إلى مركز عالمي جديد عبر مشاريع تنموية عملاقة مثل “رؤية السعودية 2030″، وهي مشاريع تتطلب بالضرورة وجود بيئة مستقرة سياسيًا وأمنيًا. من هنا جاء الدفع باتجاه إعادة دمج سورية في النظامين الإقليمي والدولي كخطوة على طريق استقرار المنطقة بأسرها.
بالمقابل، وفي أعقاب سقوط نظام الأسد، أظهرت القيادة السورية الجديدة رغبة في الانفتاح السياسي، وتقديم تطمينات للولايات المتحدة ودول الإقليم بعدم تشكيل خطر أمني مستقبلي. شملت هذه التطمينات إشارات نحو إدماج الفصائل المسلحة في مؤسسات الدولة، وتبني مسار اقتصادي تنموي يُشرك الشركات الأمريكية في مشاريع إعادة الإعمار، خصوصًا في قطاعات الطاقة والبنية التحتية؛ ما يُمثل تقاطعًا مع الرؤية الأمريكية والإقليمية للشرق الأوسط الجديد.
من جهة أخرى، يظهر القرار الأمريكي متأثرًا بالتنافس الجيو-اقتصادي على المنطقة، حيث تتخذ سورية اليوم موقعًا متقدمًا في هذا التنافس بين القوى الكبرى. ومدفوعةً بحاجة البلاد للإعمار، تشير تقديرات اقتصادية إلى أن إعادة إعمار سورية قد تتطلب ما لا يقل عن 300 مليار دولار، ما يجعلها سوقًا واعدة للشركات الدولية.
وبينما تأمل الصين في إدماج سورية في مبادرة “الحزام والطريق” المستقبلية، وتسعى روسيا إلى إحياء علاقات استراتيجية متجذرة، تحاول الولايات المتحدة ترسيخ نفوذها من خلال المشاريع الاقتصادية وإعادة الإعمار بدلًا من الوجود العسكري المباشر. هذا التنافس الجيو-اقتصادي يجعل من سورية ساحة اختبار لسياسات الهيمنة الناعمة، حيث تسعى كل قوة لتثبيت نفوذها بأساليب غير عسكرية، وهو ما يعكس تحوّلًا متوقعًا في مناخ الاستثمار؛ مما يجعل القرار الأمريكي برفع العقوبات يصب في مصلحة الولايات المتحدة التي تسعى إلى إعادة تدوير نفوذها في سورية عبر البوابة الاقتصادية، ومنافسة الصين وروسيا الساعيتين لترسيخ وجودهما في البلاد.
رغم رفع العقوبات، لا تزال الولايات المتحدة تراقب السلوك السياسي لدمشق. هناك مطالب أمريكية واضحة تشمل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، إبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب القيادية في سورية، وإخراج الفصائل الفلسطينية المرتبطة بإيران. هذه الاشتراطات تمثل شروطًا غير مكتوبة لاستمرار الانفتاح الأمريكي، وتعكس رغبة واشنطن في ضمان أن تكون سورية جزءًا من معادلة استقرار إقليمي تخدم المصالح الأمريكية.
يُعدّ رفع العقوبات الأمريكية عن سورية مؤشّرًا على تحوّل أوسع في الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط، ونقطة بداية لعلاقة جديدة بين دمشق وواشنطن، قائمة على المصالح لا الشعارات. لكنه أيضًا اختبار لقدرة سورية على تقديم نموذج سياسي واقتصادي مقبول إقليميًا ودوليًا، ولرغبة الولايات المتحدة في دعم استقرار حقيقي ومستدام دون انخراط مباشر.
أما عن مستقبل العلاقات الأمريكية السورية، فحتى مع رفع العقوبات، من المتوقع أن تنحصر هذه العلاقة في نمط “شراكة حذرة” قيد الاختبار، بحيث يقتصر التعاون على ملفات محددة، لكن دون الوصول إلى مستوى تحالف استراتيجي شامل؛ ما يوفر لدمشق قدرًا من الاستقلالية وعدم الارتهان الكامل لأي محور دولي.
ختامًا، ستحدد السنوات القادمة ما إذا كان هذا الانفتاح سيمثّل بداية جديدة لسورية ودورها في النظام الإقليمي، أم أنه مجرد محطة مؤقتة في لعبة الأمم المتجددة على رقعة الشرق الأوسط.