سياسة

الحكومة السورية: إما أن تكون عنصراً مساعداً للتعافي أو عائقاً له

مايو 14, 2025

الحكومة السورية: إما أن تكون عنصراً مساعداً للتعافي أو عائقاً له

توقفت المدافع، وطوت الحرب غبارها في سورية بعد 14 عاماً، لم يغمضْ السوريون جفناً، ولم يهنأ لهم بال؛ مئات آلاف الشهداء، ومثلهم من الجرحى، وملايين المهجّرين والنازحين.



يتطلع السوريون اليوم إلى مرحلة البناء والتعافي مما خلفته الحرب، ويقفز سؤال رئيسي سأحاول فيما يلي الإجابة عليه: هل ستكون الحكومة الانتقالية برئاسة الرئيس أحمد الشرع، وطاقمه المؤلف من 23 وزيراً، وكل ما تمثّله من أجهزة إدارية ومؤسسية، طرفاً فاعلاً في النهوض والتعافي، أم ستتحوّل إلى العائق الأكبر أمامه؟ هذا السؤال لا يغيّب المجتمع المدني ومؤسساته عن دائرة التفاعل مع الحكومة، ولكنه إدراك أن حجم التحديات التي تحيق بالبلد الخارج من نزاع، وما يتطلبه من إقرار قوانين وتشريعات، وتنظيم الحياة الاقتصادية، ودفع العجلة إلى الأمام، منوط بالحكومة بالدرجة الأولى.



ما حدث في سورية لا يختلف عن التجارب الكبرى في العالم؛ لم تكن الحكومات بعد الحروب مجرد إدارات تسيّر الأعمال، بل كانت الفاعل المركزي الذي يقرّر مصير مرحلة التعافي. بعد تدمير ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، لم يكن لنهوضها إمكانية لولا وجود حكومة تتبنى سياسات مرنة وعقلانية، وتستوعب حجم التحديات التي تواجه البلاد، وما يتطلبه ذلك من مشاركة محلية ودولية للحؤول دون انزلاق البلاد إلى دوائر عنف جديدة؛ حكومة تتعاون مع العالم لإعادة تشكيل الاقتصاد عبر خطة “مارشالية” على أسس إنتاجية، لا على قواعد الريع والمحاباة. وفي رواندا أيضاً، التي خرجت من مجزرة جماعية وتفكك اجتماعي، استطاعت الحكومة التي تشكلت عقب انتهاء النزاع تبنّي نموذج اقتصادي ناجح بفضل إرادة سياسية صارمة، كانت العدالة الانتقالية ومحاربة الفساد والانفتاح على تجارب اقتصادية جديدة أهم قواعدها.



في الوقت الذي نتذكر تجارب ناجحة في ألمانيا ورواندا وغيرها، هناك في الجهة المقابلة، فشلت دول بعد انتهاء النزاع من نزع الفتيل وحل جذور الأزمة. ثمّة حكومات تحوّلت إلى عبء حقيقي بعد انتهاء الحرب، بل وأكملت مهمة التدمير بطريقة أخرى. الصومال مثلاً، وليبيا بعد القذافي، ليست ببعيدة عن هذا النموذج. هناك، لم يكن غياب الدولة وتشكيل الحكومة فقط هو المشكلة، بل تحوّلت الحكومة ذاتها إلى طرف من أطراف الفوضى والصراع الذي تجدد بأشكال وألوان أخرى.



في الحالة السورية، لا تزال التجربة الحوكمية ترسم أبعادها وتخطّ مستقبلها، بعد تنصيب أحمد الشرع رئيساً للجمهورية، وإقرار الإعلان الدستوري المؤقت، وتشكّل حكومة من 23 وزارة. تسيطر هذه الحكومة على معظم أراضي البلاد، سوى الشمال الشرقي الذي لا يزال يحتكم للإدارة الذاتية بشكل أو بآخر. لم يمضِ وقت كثير لتقييم أدائها والحكم عليه، ولا يزال الوزراء يكافحون ويناضلون من أجل العمل، وتوسيع المساحات، وفتح الهوامش التي كانت مغلقة بسبب سياسات النظام ومنهجيته التي دمّرت البلاد وأرهقت المواطنين، ليس خلال الثورة وحسب، بل منذ 50 عاماً على أقل تقدير.



الأهم الآن، مراقبة السياسات التي تُقرّها الحكومة، والتي يمكن أن تدلّل على بناء اقتصاد منتج وبيئة اقتصادية عادلة، أو العكس: بناء اقتصاد استهلاكي وبيئة اقتصادية مشوّهة. المشكلة ليست في وجود الحكومة من عدمها، بل في طبيعة الدور الذي تقرر أن تلعبه، والسياسات التي تُقرّها.



هل ستقوم الحكومة السورية بتيسير طريق التعافي، أم ستقف على جانبيه تحاسب وتُضيّق، وتفرض الرسوم، وتوزّع الامتيازات على المحظيّين؟ هل ستفتح السوق أمام المبادرات الصغيرة والمتوسطة، وتشجّع المبادرات وريادة الأعمال؟ هل ستحتكر الثروة والمشاريع الكبرى داخل دوائر مغلقة، لا يدخلها إلا من حظي بولاء سياسي أو أمني أو فكري؟ هل ستكتفي بجمع الضرائب، أم ستخلق سياسة ضريبية عقلانية تشجّع على الإنتاج وتراعي حجم الركود والبطالة الهائلين؟ وهل ستسمح بتداول الثروة على نطاق واسع، أم ستعيد إنتاج النمط الريعي، حيث تنهمك فيه فئة قليلة في مضاربات العقار أو تجارة المحروقات، بينما يُترك الباقون للبحث عن المساعدات؟ هل ستظل تستجدي مساعدات المجتمع الدولي، أم تعتمد على نفسها في النهوض؟ هل ستعمل على نشر الاتفاقيات الموقعة بكل شفافية، أم ستعمد إلى طمس المعلومة والغموض في صناعة القرار وتوقيع الاتفاقيات؟ هل ستذهب في بناء “دبي” وأبراج زجاجية، وتعطي الأولوية لرجال الأعمال، وتنسى الشباب والفئات المهمشة؟



بالقدر الذي يعاني الاقتصاد السوري بعد الحرب من مصائب وتحديات، بالقدر الذي لا أزال أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى معجزة، بل إلى اعتماد ديناميكية تشاركية وقرارات رشيدة؛ قرارات تتّخذ من الشفافية قاعدة، ومن محاربة الفساد شرطاً أساسياً، والعدالة الاجتماعية وحماية الفئات الضعيفة أولوية، وفتح السوق للمنافسة بشكل شفاف وعادل. لا يمكن بناء اقتصاد سليم في ظل غياب المساءلة والرقابة، ولا يمكن استقطاب أي استثمار خارجي أو داخلي إذا كانت القرارات بطيئة وعشوائية وغير رشيدة، ولا تقوم على دراسات صحيحة.



كان التعليم، والصناعة، والزراعة، هي محاور التعافي الحقيقية في دول كثيرة، لا النفط، ولا العقارات، ولا التجارة. خرجت كوريا الجنوبية مثلاً من الحرب بموارد شحيحة، لكنها قررت أن تبني اقتصادها على التصدير، والتصنيع، والابتكار، والاهتمام بالإنسان، محور التنمية، فأصبحت اليوم واحدة من أكبر الاقتصاديات التي تحظى بسمعة جيدة في سلّم الدول المتقدمة. في المقابل، دول كالعراق وفنزويلا، اختارت الاعتماد الكلي على النفط والريع، وأهملت بناء اقتصاد متنوع وإنتاجي. والنتيجة هي: انهيار مع أول أزمة أسعار، ودوام المعاناة وحدوث الأزمات.



علينا أن نقرّر أي طريق سنسلك في سورية: الريع والاحتكار والفساد والمحسوبيات، لنكون عملياً حجر عثرة في طريق أي تعافٍ حقيقي، أو العكس! ينتظر السوريون من حكومتهم أن تتحوّل إلى التنمية المستدامة، والتفكير بالأجيال القادمة، والتفكير بالشباب والفئات التي هُمّشت طوال السنوات الماضية؛ بتنظيم السوق دون ابتلاعه، ودعم الإنتاج لا الاستيلاء عليه، ومراقبة الأسواق دون تكميمها.



لن يكون التحدي في إعادة الإعمار بالحجر والبيتون، بل في إعادة صياغة السياسات بين الدولة كحكومة، والاقتصاد كمجتمع؛ فإما أن تكون الحكومة جسراً نحو النهوض، أو جداراً يسدّ الأفق.



في الحقيقة، لا أعطي أهمية كبيرة لبناء الأبراج ولا جذب المستثمرين الأجانب، بالقدر الذي أنتظر فيه شكل معاملة الحكومة مع الموظفين والعمّال، والسوق، ووسائل الإنتاج، وحوكمة القرارات، والمرونة التي تبديها حيال المشكلة الاقتصادية وشكل الحلول المقترحة.



إحدى الإشارات المختلفة التي جاءت من الحكومة مثلاً: أقدمت حكومة تسيير الأعمال في البداية إلى فصل الموظفين، ولكن الحكومة الانتقالية ألغت القرار وأعادتهم إلى وظائفهم. أشارت الحكومة الأولى إلى نيتها بيع القطاع العام وشركاته، وصرّح وزير الاقتصاد في الحكومة اللاحقة إلى مقاربة متأنية وقرارات رشيدة في التعامل مع هذه الشركات. لا تفتأ الحكومة تذكّر بالاستثمار الأجنبي، في حين بالكاد أقرأ شيئاً عن الفئات المهمشة والضعيفة في المجتمع. لم أسمع حتى الآن عن منهجية الحكومة في التوزيع العادل للثروة وتحقيق الرفاه للمواطنين. لا تزال الحكومة في أول الطريق، والتحديات كبيرة أمامها، وينبغي أن يكون المجتمع عوناً ومصوّباً لأي خلل قد يصدر منها.

شارك

مقالات ذات صلة