مشاركات سوريا

عن وفاء ياسين بقوش: الليبي الذي صنع بهجة السوريين وقاسمهم الأفراح والأتراح

مايو 13, 2025

عن وفاء ياسين بقوش: الليبي الذي صنع بهجة السوريين وقاسمهم الأفراح والأتراح

عادل العوفي

 

من الشخصيات الأصيلة التي لا ينبغي تجاوزها بعد تحرر سوريا وأهلها من أصفاد الديكتاتورية الأسدية؛ وسيكون من الإنصاف إعادة سرد تفاصيل حياتها الغنية أصلاً بالمحطات الدرامية من باب الوفاء، وهي الصفة الأقرب له، وقد دفع أثماناً باهظة في سبيلها؛ والحديث هنا عن الفنان الراحل ياسين بقوش، الذي ترك رحيله جرحاً غائراً في نفوس السوريين والعرب، لا سيما الطريقة المأساوية التي انتهت بها حياته، وهو الذي ظل يُضرَب به المثل في النبل والطيبة والأخلاق الحميدة.



الليبي المخلص لتراب الشام: في الحارة الشركسية بحي الصالحية الدمشقي الشهير، وُلد ياسين سنة 1938، ودرس في مدرسة الأيوبية الواقعة في نفس المنطقة، دون أن تساوره أية شكوك حول أصوله الحقيقية، جازماً بأنه دمشقي الأصل ولا يعرف بقعة أخرى غيرها؛ لكن صدفة غريبة عجيبة في سنة 1976 ستجعله يكتشف حقيقة أصوله الليبية، حين راسلته إحدى عماته بعد أن تعرفت عليه عندما شاهدته على شاشة التلفزيون، لتقرر السفر نحو الشام، فيتعرف ياسين من خلالها على أنه من منطقة زوارة، على الحدود الليبية التونسية، وأن اسم “بقوش” جاء من “البقاش” (في مصر يقولون بكاش)، وهي كلمة بربرية تعني “الكذاب”.



تعود أصل الحكاية حين تقطعت السبل بجَدِّ ياسين، وهو في رحلة الحج، حيث أَلَمَّ به مرض شديد في مكة، مما أدى إلى تخلُّفه عن ركب رفاقه العائدين إلى ليبيا؛ فقرر أن يتوجه صوب دمشق قبل استكمال مسيره لبلده، لكنه انبهر بأجواء الشام واستطاب له العيش فيها، ليقرر الاستقرار، كونه غير قادر أيضاً على تحمل عناء السفر على الدواب والجمال كإحدى الوسائل المتاحة للتنقل حينها. فتزوج “عبد القادر” في أحد الأحياء الدمشقية العريقة، وانخرط في الحياة هناك، وأبصر أولاده النور مرتبطين بحب سوريا ولا شيء سواها.

 


ياسين الموهوب ذو الصوت الشجي


بدأت موهبة الشاب ياسين تظهر مبكراً، ليبحث عن موطئ قدم له يستطيع من خلاله تنميتها والمضي في حلم المسرح والأضواء الذي يحتل تفكيره؛ وتأتى له ما أراد عبر عبد اللطيف فتحي، الشهير بلقب “أبو كلبشة”، في المسرح الحر بعد تأسيسه سنة 1956، برفقة أسماء مهمة في تلك المرحلة، كانت تنبض بالموهبة والرغبة الجامحة في إيصال أصواتهم عبر الخشبة وسحرها.



في سنة 1958، تعرف المستمع السوري على صوت ياسين بقوش الشجي الفريد من نوعه، عبر المسلسل الإذاعي “متعب أفندي”، من تأليف القصاص الشعبي حكمت محسن، وإخراج تيسير السعدي. ومن خلال الفواصل، وجد ياسين ضالته في أسر المستمعين بأسلوبه الجذاب غير المسبوق إذاعياً حينها.


 

نداء أبو الفنون


وحين تم تأسيس مسرح العرائس سنة 1960، وتولى الإشراف عليه عبد اللطيف فتحي، واصل الأخير الرهان على موهبة ياسين، لينتقل معه ويقدما عروضاً مسرحية موجهة للطفل، وحصدت نجاحاً منقطع النظير؛ وفي العام نفسه، تأسس المسرح القومي، وشارك ياسين في العمل المسرحي المعروف “سهرة مع أبي خليل القباني”، للمبدع سعد الله ونوس، وإخراج أسعد فضة.



وشكّل بعد ذلك ثنائياً مميزاً مع الراحل عمر حجو، من خلال برامج الأطفال والبرامج التلفزيونية الأسبوعية والتمثيليات، بعد أن اكتسب خبرة لا بأس بها، بفضل حضوره المسرحي الذي جال به كل أرجاء سوريا.



لتبدأ في نهاية الستينات أهم تجاربه من خلال “مسرح الشوك”، الذي أنشأه عمر حجو، وشكل عبره توليفة رائعة من أهم الممثلين في تاريخ المسرح السوري، وقدموا عروضاً هامة، أولها “مرايا”، ثم تلاها “جيرك” من إخراج دريد لحام، بالإضافة إلى “براويظ” ببصمة إخراجية لأسعد فضة، وكانت عبارة عن اسكتشات اجتماعية وسياسية ناقدة حصدت الثناء والإعجاب.



ليتوقف بعدها “مسرح الشوك” سنة 1974؛ فينخرط ياسين بقوش في شراكة فنية مع يوسف حرب، وأطلقا فرقة “التجمع النقابي”، وقدموا عدة مسرحيات فاقت الثلاثين، أهمها: “حبي ومستقبل غيري”، و”زوجتي مليونيرة”، و”الليلة عرسي”، وغيرها.



نجومية التلفزيون وميلاد “ياسينو”: مهّد التألق المسرحي لياسين كي يستهل مشواره التلفزيوني، حيث بلغ أقصى درجات الانتشار المحلي والعربي أيضاً؛ وكانت أولى مشاركاته من خلال مسلسل “رابعة العدوية” سنة 1961، ثم مسلسل بعنوان “مساكين” عام 1969؛ ثم مسلسل “زقاق المايلة” 1972 مع المخرج شكيب غنام، وحقق نجاحاً كاسحاً.



لتبدأ المرحلة الأكثر أهمية في ذروة بروز مسلسلات دريد لحام ونهاد قلعي؛ ليدخل ياسين بقوش في “فخ” الشخصية التي استحوذت عليه كلياً، وهي كاركتر “ياسينو” الساذج الطيب، حيث استهلها بمسلسل “صح النوم” سنة 1972، ثم “ملح وسكر” في العام الذي يليه، وأيضاً “وين الغلط” و”لكل الناس” و”تلفزيون المرح” و”وادي المسك”، ثم “عريس الهنا” سنة 1984.



وعن هذا الدور صرّح ياسين سابقاً: “في البداية اعتذرتُ عن أداء دور ياسينو لانشغالي بمسرح الشوك، لكن الفنان نهاد قلعي تحدث معي وقال لي إن هذا العمل مثل مسرح الشوك، فقلت له: كيف ذلك؟ فقال: حسني البورظان يمثل الفكر العربي، غوار يمثل الفكر المتآمر على الفكر العربي، أبو عنتر يمثل عضلات الفكر المتآمر، ياسينو يمثل الشعب العربي الطيب الذي يصدق كل شيء، وفطوم هي الأرض العربية التي سيتم التزاحم عليها في المستقبل”.



تجارب سينمائية بمضمون واحد: في الفن السابع، واصل ياسين حضوره كعنصر رئيسي في ثنائية دريد ونهاد، وظل مواظباً على الشخصية ذاتها، التي عبّر من خلالها نهاد قلعي عن حالة الشعب العربي من حيث الطيبة والبساطة؛ وقدم رفقة هذه المجموعة أفلاماً مثل: “غزلان” سنة 1969، و”الثعلب” 1971، و”مقلب حب”، و”شقة ومليون مفتاح”، و”رحلة حب”، و”عروس من دمشق”، و”عنترة فارس الصحراء”، ثم “غوار جيمس بوند”، و”الغجرية العاشقة”، و”النصابين الخمسة”، و”غراميات خاصة”، بالإضافة إلى “الاستعراض الكبير”، و”صح النوم”، و”العندليب”، و”المزيفون”، و”تفضلوا ممنوع الدخول”، و”حارة العناتر”، و”أمطار صيفية”.



لينحصر ياسين في قالب وشخصية واحدة، وتبدأ مجموعة الرفاق بالتفكك في منتصف الثمانينات، وتتضاءل فرص العمل؛ ليصارع وحيداً، فيضطر للقبول بأعمال بسوية فنية ضعيفة مثل “ياسين تورز” سنة 1996 وغيرها؛ ويدخل ياسين بقوش منعطفاً صعباً في حياته ومشواره الفني.

 


“ياسينو” الوفي المخلص


حين قرر دريد لحام العودة بعد فترة توقف طويلة؛ ارتأى إعادة استحضار شخصيته المعروفة “غوار الطوشة” في مسلسل “عودة غوار: الأصدقاء” سنة 1998، برفقة “أبو عنتر”، بعد رحيل شريك نجاحاتهم نهاد قلعي؛ جاء رد ياسين على مقترح العودة بالقول: “هل تريد للناس أن يبصقوا علي في الشارع؟”.



والسبب أن الدور المكتوب لشخصية “ياسينو” يستلزم خيانة صديقه “غوار” وإدخاله السجن؛ ليرفض كسر صورة الشخصية المحبة الطيبة في أذهان الناس؛ ومنذ تلك الفترة، أصبحت الفرص أمامه شبه منعدمة، حتى عاد في أدوار صغيرة بمسلسلات “البطرني” و”تلاميذ آخر زمن” سنة 2001؛ ثم أبدع في دور حاخام يهودي في المسلسل التاريخي “سيف بن ذي يزن”، ليؤكد أنه ممثل من الطراز الرفيع لو سُنحت أمامه فرص إثبات ذلك؛ كما شارك في العمل التاريخي الآخر “بهلول: أعقل المجانين” الجزء الثاني سنة 2008، و”صايعين ضايعين” سنة 2011.



وعاد للسينما من بوابة فيلم “حارة التنابر”، و”الرجل الضاحك”؛ وتألق مع المخرج محمد عبد العزيز في فيلم “نصف ميليغرام نيكوتين” وفيلم “دمشق مع حبي”.



“ياسينو” ومقالب غوار بين الحقيقة والدراما


مفارقة ساخرة هي العلاقة بين “ياسينو” و”غوار”؛ لكنها في الحقيقة أعمق من ثنائية تلفزيونية استحوذت على حب المشاهدين، لأنها بقليل من التركيز، سنجد أن طيبة بل وسذاجة الشخصية انتقلت لصاحبها، الذي ظل يكابد ليس فقط للخروج من جلبابها، بل لمجابهة واقع فني معقد لا يعترف بالطيبين، ويستوجب شروطاً أخرى من النفاق الاجتماعي والتملق للسلطة لكسب ودّها، وبالتالي أن تُفتح الأبواب أمامه؛ وهذا ما لم يقوَ ياسين، أو بالأحرى “ياسينو”، على مسايرته، ليعاني الأمرَّين في سنوات عمره الأخيرة، ويكافح لكسب قوت يومه والحفاظ على الابتسامة التي ظل الجمهور يعرفه بها.



ظل ياسين وفياً لحياته البسيطة، وقريباً من الناس والشارع، حيث نجح عبر هذه العلاقة الوثيقة في تبني مصطلحات المواطن العادي البسيط، ومن خلالها دخل قلوب المتلقي بسلاسة؛ واللافت أنه بقي مخلصاً لسوريته وحبه لهذا الشعب، حيث صرّح سابقاً: “لم أشعر يوماً أني من ليبيا، فهذا البلد الأمين لم يعلمني سوى الخير والمحبة، هذا البلد عشت فيه كل حياتي، تربيت وكبرت وعملت وتزوجت وأنجبت في كنفه، ولن أغادره إلا إلى الموت، ولن أغدره ولو مت أنا وأطفالي من الجوع”.



قذيفة غادرة ونهاية مأساوية


قرب مخيم اليرموك، وتحديداً في حي “العسالي”، استهدفت قذيفة “آر بي جي” سيارة ياسين بقوش في الرابع والعشرين من شهر شباط سنة 2013؛ لم تثنِ الأحداث العظيمة التي يعيشها السوريون في تلك الأيام عن وداع وبكاء ورثاء ابن ليبيا الذي يصر على أنه ابن الشام والصالحية البار، الذي لم يعرف بلداً غيرها. وحينها، اكتشفت وسائل الإعلام متأخرة، كالعادة، معاناة ياسين في أيامه الأخيرة من الإهمال والتهميش؛ لكنه كما سبق، ظل وفياً لكلماته أنه لن يغادر سوريا إلا إلى الموت.



ونال مراده بالفعل؛ ولعل من النقاط الملفتة التي أُميط اللثام عنها بعد رحيله، واقعة مريرة عاشها مع نقيب الفنانين حينها، صباح عبيد، الذي “أهانه” فقط لأنه طلب تعديل وثيقة تسمح لابنه بولوج المعهد الفندقي؛ والغريب أن الفارق الزمني بين رحيل الاثنين لم يتجاوز 24 ساعة فقط.



رحل ياسين بقوش الليبي الأصل، والسوري الهوى، وحتى الهوية، متلحفاً تراب الشام الذي عشقه، دون أن يتمكن من رؤية لحظات انعتاق سوريا من عهد الظلم والقهر؛ لكن من حقه علينا أن نستحضر سيرته من باب الوفاء، وهو من قدم لنا دروساً في الإخلاص والطيبة طوال حياته.


رحم الله “ياسينو” الأصيل.

شارك

مقالات ذات صلة