Blog
راما شوربجي
مبارك لنا جميعاً.. انتصرت الثورة السورية وانتهت الحرب، ويُفترض الآن أن تكون العودة إلى الديار الخطوة التالية.
لكن الواقع كما هو دائماً، أعقد من الصورة المتفائلة. فبينما يعلّق كثيرون آمالهم على أن ينتهي الشتات السوري بتحرير البلاد، لا يزال الملايين في الخارج، إما عاجزين أو غير راغبين في العودة.
هنا يبرز السؤال الأعمق: لماذا لا يعود السوريون إلى سوريا بعد التحرير؟
ولكي نُجيب، لا يكفي أن نبحث في السياسة أو الأرقام. علينا أن نغوص في الأبعاد التاريخية والنفسية والمجتمعية، لنفهم ماذا يعني للإنسان “الوطن” حين يتحطم ويتحول إلى أنقاض.
منذ آلاف السنين، والحروب تدمر الأوطان وتُربك معاني انتماء شعوبها. إذ عانت شعوب قديمة وحديثة من المأساة ذاتها: أن تعود إلى مكان لم يعد يشبه ما غادروه.
فمثلاً بعد الحرب العالمية الثانية، عادت اللاجئة «ماريا إلسنر» من معسكرات السُخرة في النمسا إلى مسقط رأسها في المجر. كانت تظن أن الحياة القديمة بانتظارها، لكنها لم تجد شيئاً. لا أثاث ولا ذكريات ولا أحد. كما تقول: “عندما فكرنا في العودة، تصورنا أننا سنعود إلى حياتنا القديمة. الحياة القديمة لم يكن لها وجود.. ولم يكن لدينا أي شيء.”
قصة ماريا تكرّرت مع ملايين الناجين من الحروب، الذين وإن نجحوا في النجاة، فقدوا كل ما يربطهم بجذورهم. عاشوا بعيداً عن الوطن، بالمعنى العميق للكلمة. هكذا، فالعودة ليست دائماً خلاصاً، بل امتدادٌ للتيه، وهذا ما يشعر به كثير من السوريين اليوم.
فسوريا التي عرفوها تغيّرت؛ وقد لا تتسع لذاكرتهم أو لهويتهم الجديدة. وفي نظرهم، عودتهم قد لا تعني العودة إلى البيت وحضن الوطن أبداً، بل إلى مجهولٍ لا يعدهم بأي شيء سوى غربة داخل الجغرافيا ذاتها.
بالنسبة للسوريين الذين فقدوا أحبابهم فداءً للثورة، العودة تعني لهم عبوراً مؤلماً إلى ساحة الفقد ومسرح الفاجعة التي تركوا فيها أحبّتهم ورحلوا.
فكيف يمكن لمن فقد أباه تحت القصف، أو دفن أخاه في باحة البيت، أو اختنقت أخته بغاز الكيماوي، أو قُنصت والدته أن يعود إلى المكان ذاته وكأنه يستطيع الحياة من جديد؟ هكذا تتحوّل بعض الأماكن المألوفة إلى محفّزات نشطة للوجع والذكريات المؤلمة، فتُستدعى الأحزان تلقائياً مع كل شارع وكل زاوية.
لذا ما يُثقل كاهل العائدين ليس الفقد وحده، بل غياب من كان يشاركهم الذكرى. “إن عدنا إلى المكان.. فمن يُعيد إلينا الرفاق؟”، والغربة رغم قسوتها، تمنح أولئك المقهورين شيئاً واحداً لا يجده غيرهم في الوطن: مساحة للهروب من الذكرى.
اقتلاع الإنسان قسرياً من أرضه يغيّره جداً ولا يعود كما كان. ففي المنفى، تُبنى طبقات هوية جديدة فوق الجذور الأصلية. تتغير اللغة والعادات وتتكوّن ولاءات مختلفة، ويتحول الانتماء لسوريا إلى حكاية ألم بعيدة.
كما رفض «آخر مليون» لاجئ بعد الحرب العالمية الثانية العودة لأوطانهم خشية القمع أو النبذ، يشعر كثير من السوريين اليوم بأن العودة تعني اندماجاً قسرياً في هوية لم تعد تشبههم.
إن الهويات الجديدة التي تبنّوها خلال سنوات اللجوء في الخارج، قد تجعل العودة إلى سوريا كما لو أنها عملية فرض نسخة قديمة من أنفسهم، لا تتوافق مع نسختهم الجديدة.
هاجس “الإسلاموفوبيا”
من المعوّقات غير المعلنة أحياناً لعودة بعض السوريين، خصوصاً لدى من تأثروا بخطاب “الإسلاموفوبيا”، هو الخوف من أن تتحول سوريا ما بعد التحرير إلى “أفغانستان”، أي بمعنى أن تتحول إلى دولة تُحكم بالدين.
هذا القلق، رغم أن غالبية السوريين مسلمين، هو نتيجة تراكم سنوات طويلة من التشويه المقصود من النظام وشيوخه الذين قدموا نموذجاً للدين يُسخَّر لتبرير الاستبداد لا لمحاسبته، ولإخضاع الناس لا لتحريرهم.
لكن الدين ذاته لن يكون يوماً مصدراً للخوف، بل جوهر دين الإسلام هو عين العدل والرحمة والكرامة. ومتى ما فُهم الدين كما يجب، سيتضح للخائفين منه بأنه لا يهدد المجتمعات بل ينهض بها.
ومخطئ من يظن أن مسؤولية تطبيق الدين الصحيح تقع على عاتق الدولة فقط، بل هو التزام عقائدي أخلاقي وروحي يبدأ من الفرد. فالفتح الحقيقي في سوريا يبدأ من جذور المجتمع لا من القيادات.
ندوب اقتصادية تخذل أحلام العودة
في بلد تغيّرت فيه ملكية البيوت بين ليلة وضحاها، وضاعت آلاف المنازل بين مصادرتها من نظام الأسد والدمار الذي خلّفته ميليشياته، وذهبت أوراق الملكية مع أصحابها في فوضى اللجوء أو أروقة الفساد. لا يمكن الحديث عن العودة إليه دون أن نسأل: “نعود إلى ماذا؟ إلى بيت لم يعد موجوداً؟ أو عقار استولى عليه شبيح وهرب بأوراقه؟”
لكن المأساة الاقتصادية تبدأ من الداخل السوري وتمتد إلى الخارج. فكثير من السوريين في الخارج عملوا لسنوات طويلة دون قدرة على الادخار أو تحقيق الاستقرار المادي. فالإيجارات الباهظة، وغلاء المعيشة، وصعوبة الحصول على وظائف ثابتة أجبرتهم على البدء من الصفر مرة بعد مرة.
بعضهم انتقل بين ثلاث أو أربع دول، وكل مرة يعيد تأسيس حياته من جديد، يشتري الأثاث من الصفر، يبحث عن مدرسة جديدة لأطفاله، ثم فجأة يُطلب منه الرحيل لأسباب أمنية أو اقتصادية.
لذا أن يعود الإنسان إلى بلد يحتاج فيه إلى إعادة بناء حياته من نقطة الصفر مجدداً، دون ضمانات، ودون بنية تحتية، ودون مال مدّخر، لهو مخاطرة وجودية.
هل تتحقق عودة “كل السوريين” يوماً؟
كما رأينا في هذا المقال، يعلمنا التاريخ أن العودة للأوطان لا تتحقق بمجرد نهاية الحرب وانتصار الثورات.
فقد عرف اليهود الناجين من الهولوكوست، ولاجئو الحرب الأهلية الإسبانية، والعديد من شعوب القرن العشرين، أن الرجوع إلى الوطن لا يكون دائماً بالقطار أو الطائرة؛ بل هو رحلة معقّدة، تتداخل فيها السياسة بالذاكرة، والحنين بالخسارة، والهوية بالخوف.
ومثلهم، لا يُواجه السوريون سؤال “هل نعود؟” فقط، بل “كيف نعود؟” و”لماذا؟”.
فبعضهم يعود ليجد أن ملامح الحياة القديمة قد مُسحت، وأنه مدعو للبدء من جديد فوق أطلال ما كان. أما البعض الآخر، فقد تعوقه فكرة أنه لم يتألم بما فيه الكفاية ليعود إلى وطنه الجريح، فلم يفقد عزيزاً، أو لم يشارك في الثورة كما يجب، أو نجا بأقل الخسائر.. وكأن الوطن امتياز أو جائزة تُمنح مقابل المعاناة!
يجب أن يعلم أن لا أحد يحتاج إلى “استحقاق” كي يحب بلده، أو يسهم في إعادة بنائه.
الآن هو وقت تحوّل الشعور بالعجز إلى طاقة بناء، وأن تغلب الرغبة في الانتماء والعطاء على عبء الذنب أو التقصير، وأن نلملم جراحنا جميعاً ونبني أرواحنا وأنفسنا من جديد. فالدعوة مفتوحة لمن تبقّى منهم أملاً وحياةً وعطاءً لسوريا وأبنائها.
وربما لن يعود كل السوريين… لكن من قال إن العودة يجب أن تبدأ من الجغرافيا؟ ربما تبدأ من استعادة المعنى حتى وهم في الخارج، ثم تكبر خطوةً بخطوة، حتى يصير حلم العودة واقعاً جميلاً من جديد.