مجتمع
كيف تصبح جملة “اذهبوا فأنتم الطلقاء” نقمة؟
في مجتمعاتٍ اعتادت السكوت والخوف، لا تكون نهاية الحرب والتحرير كافية لإعلان بداية جديدة. على العكس، هي بداية المشقة، بداية تعافي الجراح وتضميدها، فالماضي لا يُمحى بمجرد الصمت. والسكوت عن الجرائم لا يُنتج سلاماً؛ بل يؤسس لجراح غير مرئية تتناقلها الأجيال، وتتناقل معها خُذلانها. الكثير من الدموع ذُرفت على أبواب المعتقلات، والكثير من الآمال المُعلّقة دُفنت مع أصحابها.
الرجاء الأخير كان المحاسبة العادلة، ألا تكون دماء الشهداء وليالي المعتقلين هباءً، أن يُسجن سجّانهم ويُحاسب قاتِلهم. هنا تكمن الحاجة إلى “العدالة الانتقالية” كطوق نجاة يوصلنا إلى برّ العدالة والحرية. لكن، ماذا عن العدالة الانتقالية؟ ماذا إن تأخرت؟ أو غابت الشفافية في المحاسبة، وهي أهم شروط تحقيق العدالة الانتقالية؟
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية التي تُعتمد لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل الإبادة الجماعية أو أشكال أخرى من الانتهاكات، كالحرب الأهلية أو الجرائم ضد الإنسانية – كما في سوريا – وتشمل هذه الآليات أربعة عناصر أساسية:
تأتي العدالة الانتقالية كضرورة حتمية بعد الانتقال من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي، أو من حرب أهلية إلى سلم، أو بعد النزاعات أو التحرر من احتلال. وتطبيقها يؤسس للطابع المؤسساتي للدولة ويفرض سيادة القانون. وهي إحدى ركائز بناء صرح حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فلا يمكن بناء السلام دون العدالة. إذ تُعد المساءلة القضائية أول أداة وركيزة في هرم العدالة الانتقالية، فلا يمكننا تجاوزها والذهاب إلى الإصلاح المؤسسي أو بناء مؤسسات الدولة.
اليوم، بعد مرور ستة أشهر على سقوط نظام الأسد المجرم، ما تزال خطة العدالة الانتقالية غائبة، أو ضبابية إن صح الوصف. إذ تتعامل الحكومة الحالية بنوعٍ من المراوغة مع هذه القضية – التي تشكل مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا، شعباً ودولة – فمنذ الساعات الأولى لسقوط النظام، عمت الفوضى مسارح الجرائم مثل السجون وأفرع الأمن، ففقدنا الكثير من الوثائق التي تُعد دلائل مهمة للمحاكم ولذوي الضحايا والمفقودين. وفقدنا جزءًا من الحقيقة في هذه الفوضى، والجزء الآخر ليس في حالٍ أفضل.
يزداد غضب السوريين عموماً – وذوي الضحايا خصوصاً – يوماً بعد يوم، وهم يرون أذرع النظام الهارب الاقتصادية والعسكرية ما يزالون أحراراً يتجولون في شوارع دمشق ويتنقلون بين المدن، فوق دماء ورفات الشهداء، دون ملاحقة قضائية أو محاسبة، أو حتى اعتذار لأهالي الضحايا على الأقل. أشخاص مثل محمد حمشو، أحد أكبر أذرع اقتصاد الأسد، والمتهم بتمويل الفرقة الرابعة – التابعة لماهر الأسد – وغيرهم من رجال الأعمال مثل سامر فوز، وعسكرياً مثل فادي صقر، وهو من قادة ميليشيا الدفاع الوطني، المتهم أيضاً بارتكاب مجزرة التضامن في دمشق عام 2013.
كما تم إطلاق سراح 28 ضابطًا بين رتبة رقيب وملازم، كانوا في صفوف نظام الأسد، من سجن عدرا المركزي (بحسب منشور لوكالة ثقة على منصة X).
في كل مرة تُنشر مثل هذه الأخبار، يزداد الغضب داخلنا كسوريين جميعاً. كيف يمكن لأذرع النظام المجرم العسكرية والاقتصادية أن تبقى حرة طليقة دون محاسبة؟ أن تصول وتجول مدن سوريا دون مُساءلة؟
لم تقتصر مطالب الناس على محاسبة المجرمين من أعوان النظام الهارب فقط، بل يطالبون بالمحاسبة عموماً، لكل من يرتكب الجرائم أو يقوم بانتهاكات حقوق الإنسان. فالمجرمون الذين لا يُحاسبون يُكررون الجرائم مرةً أخرى، أو تصل رسائل من خلالهم بأن الفرار من المحاسبة ممكن. وبهذا، يزداد معدل الجرائم والانتهاكات بالضرورة.
نذكر هنا أحداث الساحل السوري في آذار 2025، أثناء معارك بين الأمن العام وفلول نظام الأسد، إذ قامت عصابات خارجة عن القانون بجرائم مُروعة بحق مدنيين. وصرّحت الحكومة بقيادة الرئيس أحمد الشرع بأن انتهاكاتٍ حصلت بالفعل، وسيُحاسب كل من قام بها. لكن، اقتصر الأمر على تصريحات فقط، فلم نرَ محاكمة مرئية أو حتى تغطية صحفية لمحاكمة بحق المجرمين، أيّاً كانوا، بداية من بقايا النظام الهارب إلى العصابات الخارجة عن القانون.
لتعود مرة أخرى عصابات خارجة عن القانون وتُهاجم مناطق ذات الأغلبية الدرزية في جرمانا وصحنايا في نيسان 2025، لتستمر اشتباكات عنيفة بين الجماعات المسلحة وأهالي المنطقة، نتج عنها شهداء من الأمن العام ومدنيون أيضاً.
هنا، ندرك أهمية الشفافية في المحاسبة، إذ تأخذ دوراً حاسماً في إنجاح العدالة الانتقالية. فهي ضمانة تمكن المجتمع من متابعة مسار المحاسبة، والتدخل عند الانحراف، وتوطيد الثقة بين الضحايا والمؤسسات.
تغيب الثقة مع غياب الشفافية في المحاسبة، إذ لا يُعرف مَن يُحاسب ومَن لا، ولماذا. وهذا يخلق حالة من الشك الدائم بين مؤسسات الدولة والمجتمع، ويزداد انقسام المجتمع أكثر، فتشعر كل فئة بأنها ضحية، وهذا يزيد الصراعات الداخلية أيضاً.
وبالطبع، تستمر دورة العنف، فيبقى الغضبُ كامناً داخل الضحايا، مؤجلاً بانتظار أي شرارة. وهذا ما يهدد بناء السلام، ويجعل أي مصالحة مستحيلة دون معالجة جذر المشكلة، لأن جرح الظلم لا يندمل، ولا يمكن تجاهُله. عدا عن تناقل الألم بين الأجيال، وتوارث الأحقاد جيلاً فجيل. فأبناء ثورة 2011 لم ينسوا يوماً مجازر حماة، ولم ينسوا كيف مضت الإبادة دون محاسبة، بل كانت أوائل الهتافات: “يا حماة سامحينا، والله حقك علينا”.
ما يعني أنّ الجراح تتناقل، وتعبر الجينات، وتزداد الرغبة في الانتقام والثأر، كلما فُرض علينا التجاوز، وكأن شيئاً لم يكن.
تمر سوريا ونحن في مرحلة مهمة وصعبة جداً، إذ إن معوقات العدالة الانتقالية أكثر من فرصها للنجاح. يشكل الخلل الذي خلفه النظام الهارب في السلطة القضائية عائقاً مهماً، فلا وثائق حقيقة توصل للمجرمين الهاربين، ومجرمون داخل سوريا أحرار، مع الكثير من التساؤلات حول الاستراتيجيات التي تتبعها الحكومة للقبض عليهم.
ومؤسسات متهالكة على كافة الأصعدة؛ فلا تعليم، ولا طبابة، ولا تعويضات يمكنها أن تجبر ضرر الضحايا. وتشكل عناصر العدالة الانتقالية شبكة متكاملة لا يكتمل أحدها بمعزل عن الآخر. وليست رفاهية فكرية أو مطلب فئة محددة من المجتمع، بل شرط أساسي لتفكيك الغضب، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وفئات المجتمع بين بعضها البعض أيضاً.
في الحقيقة، هذه الخطوات طريقٌ وعر، لكنه ضروري نحو سوريا المستقبل، في تحويل وعود المحاسبة إلى حقيقة، وإجراءات ملموسة وشفافة وعادلة، تردّ الكرامة للضحايا، وتؤسس لسلامٍ حقيقي ومستدام، لتكن المسامحة قراراً نابعاً من الضحايا أنفسهم، لا مفروضة عليهم.