مجتمع

من البدايات إلى ملابس بشار الداخلية.. الكوميديا السوداء تفريغ صحي أم تخدير جماعي؟

مايو 12, 2025

من البدايات إلى ملابس بشار الداخلية.. الكوميديا السوداء تفريغ صحي أم تخدير جماعي؟

رافقت الكوميديا السوداء ثورات الربيع العربي التي تزامن اندلاعها مع طفرة في وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام الإعلام البديل كمنصات رديفة للثورة بحكم سيطرة الديكتاتوريات على الإعلام الرسمي، وكذلك كانت الحالة السورية في الصفحات واللافتات والرسومات والبرامج الساخرة التي بُثّت في المنفى، وصولاً إلى ترند الملابس الداخلية لبشار الأسد. وعلى أهمية دور الكوميديا السوداء، إلا أنه من الضروري ضبط إيقاعها كي لا تكون ضربًا من العنف الرمزي، ومسًّا بآلام الضحايا، ووسيلة للتمييع والتقزيم، وكي لا تتحول إلى أداة إنكار واختزال للمعاناة.



مع تصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي، برزت الكوميديا السوداء كأحد أبرز أشكال التعبير الشعبي التي تواجه الأزمات، وتكسر رهبة الاستبداد، وتتجاوز جدار الخوف، وتساعد في التحشيد للقضايا، وترفع سقف الحريات عبر طرح الواقع المؤلم ونقده بأسلوب ساخر ونافذ.



هي أداة تقول ما لا يمكن قوله، وتقترب من أكثر القضايا تعقيداً وحساسية، فتطرحها بطرق غير مباشرة. وسيلة تفريغ واعٍ، وآلية دفاع نفسي واجتماعي تساعد على التكيف مع قسوة الواقع وتخفيف وطأته، وحماية النفس من الانهيار. كما أنها توفر حيزًا جماعيًا يُشعر الأفراد بأنهم ليسوا وحدهم في مواجهة كل هذا الخراب.



لكن عند ذكر مصطلح الكوميديا السوداء، يتردد سؤال محق: ما هو ذلك الخيط الدقيق الذي يفصل بين الكوميديا السوداء كأداة مقاومة وتفريغ صحي، وبين انزلاقها إلى حالة إنكار وتحريف، أو غطاء يخفي الألم الحقيقي ويُطبّع مع الظلم؟



متى تسلط الكوميديا السوداء الضوء على القضايا ومتى تطمسها؟


تُسلّط الكوميديا السوداء الضوء على القضايا عندما يتم توظيفها بحساسية ووعي، عبر توازن دقيق بين السخرية والاحترام، واختيار اللغة والأسلوب والترميز الملائم، والوقت المناسب.



حين تُستخدم السخرية كأداة لكسر الصمت لا للهروب منه، ولا تكون مجرد أداة تهكم رخيص تطرح القضايا دون حساسية، وتفرغها من مضمونها، وتبرر الخطأ أو تجعله مألوفاً، وتخدر الوعي بدلاً من إيقاظه.



وفي بعض الأحيان، يؤدي تكرار السخرية من موضوع أو قضية محددة إلى امتصاص ألمها وتمييعها، وتحويلها إلى مجرد “نكتة”، مما يُضعف أثرها الحقيقي ويصرف الانتباه عنها، فتتحول الكوميديا السوداء من أداة تخدم القضايا إلى أداة تشريع للظلم تعيد إنتاجه بأقنعة فكاهية.



متى تتحول الكوميديا السوداء إلى حالة غير صحية؟



تغدو الكوميديا السوداء حالة غير صحية حين تنحرف عن دورها كمحرّك للوعي، ومحفّز للتفكير، ودافع للعمل الجدي أو الفعل السياسي أو الاجتماعي، وتخلق راحة مؤقتة تغلف الواقع المأزوم بغلاف ساخر يمنح شعوراً زائفاً بالتحرر، بينما تُركن القضايا الفعلية في الظل.

في هذه الحالة، تتحول إلى أداة إلهاء وهروب أو إنكار، لا أداة مواجهة، وتصبح وسيلة تخدير ناعمة تفقدنا الإحساس الحقيقي بحجم المأساة.



حين لا يُعطى الألم حيزاً حقيقياً وجاداً للتعبير، ويُختزل بنكتة سطحية تقصي المشاعر الأخرى كالغضب، والحزن، والخوف، والتوتر، تتلبد المشاعر، ويصبح الضحك قناعاً يخفي خلفه الألم بدل أن يكون مرآة تعكس الواقع.



كيف تساعد الكوميديا السوداء في طرح القضايا وكسر المحظورات؟


في كثير من الأحيان، وبدافع الحماية، يُقاوم العقل مواجهة الحقائق المؤلمة، ويتجنبها أو يرفضها عندما تُطرح بشكل مباشر. لكن حين تُقدّم هذه الحقائق والقضايا بأسلوب ساخر، يساعد ذلك على كسر الدفاعات النفسية، ويصبح الذهن أكثر استعداداً لفتح أبواب التفكير والتفاعل، والتعامل مع القضية دون أن تطغى مشاعر الألم أو التهديد.



بهذه الطريقة، تتحايل الكوميديا السوداء على المواقف المؤلمة التي يتجنبها العقل البشري، وتُقدَّم المأساة في قوالب يمكن استيعابها، فتتحول إلى أداة إدراك جماعي تُفعّل الوعي والذاكرة الجمعية، وتعزز التعاطف والتضامن.



هل يمكن تحويل كل مأساة إلى نكتة؟


رغم قدرة الكوميديا السوداء على كسر التابوهات وطرح القضايا المؤلمة بطريقة ذكية وساخرة، إلا أن هذا الكلام لا ينطبق على كل المآسي.



ثمة قضايا تقع في صميم الكرامة الإنسانية، ويتجاوز ألمها قدرة السخرية على احتوائها أو تحويلها إلى نكتة. في مثل هذه الحالات، لا تكون الكوميديا أداة تفريغ أو وسيلة طرح، بل تتحول إلى إهانة صريحة، وعنف رمزي يُعيد فتح جراح الضحايا وذويهم.



في الحالة السورية، على سبيل المثال، نقد الواقع التعليمي، أو البطالة، أو الفساد والرشوة بطريقة ساخرة قد يساعد في تسليط الضوء على القضية، وكسر جمود النقاش حولها. لكن حين تطال الكوميديا قضايا حساسة، مثل قضية المعتقلين في سوريا بما تحمله من ألم كبير، فإنها تفقد معناها التحرري، وتتحول إلى طمس للبعد الإنساني للكارثة، وتصغير واستخفاف بمعاناة لا يمكن اختزالها.



ترند بشار الأسد بملابسه الداخلية.. كسر للهيبة أم طمس للحقيقة؟


بعد سقوط نظام الأسد، وانتشار صوره بالملابس الداخلية، تداول السوريون صوراً ومقاطع ساخرة تُظهر بشار الأسد في مواقف هزلية أو مهينة. هذه السخرية لم تكن مجرد ضحك عابر، بل مثّلت تحرراً نفسياً من سطوة النظام، وكسر الصورة الإلهية التي فرضها الإعلام الرسمي لعقود.



لكن تداول هذا النوع من الكوميديا بشكل مفرط وطويل الأمد، واختزال السفاح بصورة هزلية مرتبطة بملابسه الداخلية، يطمس تدريجياً حقيقة إجرام الأسد، ويُضعف الذاكرة الجمعية للشعب. وهنا تتحول الكوميديا والسخرية من أداة مقاومة رمزية إلى أداة طمس للحقيقة بشكل غير واعٍ.

الكوميديا السوداء ليست جيدة ولا سيئة بطبيعتها، بل يتوقف تأثيرها على طريقة استخدامها.

إنها أداة تتطلب قدراً عالياً من الذكاء، والحساسية، والوعي في طرحها. هي ليست فقط في ما نقوله، بل كيف نقوله؟ ولمن؟ ولماذا؟



في السياق السوري، شكّلت الكوميديا السوداء خطاباً موازياً للخطاب الثوري، ساهم في كسر هيبة المستبد الذي ملأ بصوره شوارع البلاد، وجدران المؤسسات، والمدارس، والمستشفيات، لا ليُرى بل ليخيف.



وهنا برزت السخرية كفعل مقاومة عميق التأثير، إذ تجرأت على “المقدسات” السياسية، وكسرت المحظورات، وتحدّت السلطة القمعية.



لم تكن مجرد تهكم، بل كانت عملية تفكيك رمزي لصورة الطاغية، وخطاباً موجهاً للعقول المتمردة، والقلوب الخائفة، والمترددة من اتخاذ موقف صريح من الظلم.


لقد تحولت إلى أداة مقاومة حقيقية، حاربت آلة القتل بالنكات، وقاومت لغة القمع بلغة الضحك.

شارك

مقالات ذات صلة