Search

Close this search box.

سياسة

غزة اللاتينية.. ليست على الخريطة أيضًا!

مايو 30, 2024

غزة اللاتينية.. ليست على الخريطة أيضًا!

(1)

قبل أسابيع قليلة، في السابع من مايو هذا العام، كانت الفتاة أوروبية الملامح، ألما بوهادانا، ذات الأربعة وعشرين عامًا، قد وصلت لتوها إلى البرازيل قادمة من كيبوتس ياسور في الجليل الغربي المحتل بجواز سفرها الإسرائيلي، في رحلة استجمام وهدوء بالقرب من تمثال المسيح الفادي العظيم، بعيدًا عن صخب الحرب في الأراضي المحتلة وأصوات الصواريخ وصافرات الإنذار. لكن الفتاة، وفي جولتها الأولى في أرض الأمازون، ألقت بنفسها من فوق جرف عالٍ بمنطقة مدججة بالأشجار في العاصمة البرازيلية ريو دي جانيرو، لتسقط قتيلة بعد لحظات من اصطدامها بالصخور المتاخمة للمنطقة، لتلفظ أنفاسها الأخيرة بعدها بلحظات.

صديقها، الذي كان برفقتها وقت الحادثة، غيّر أقواله ثلاث مرات أمام جهات التحقيق، بعد أن زعم في المرة الأولى أن شخصًا على دراجة نارية اقترب منهما، وطلب منها أن تفرغ حقيبتها، قبل أن يعود ويقول إن الذي اقترب منهما كانت شاحنة على الطريق غير الممهد أصلاً، والذي يستحيل عمليًا أن تعبر من فوقه شاحنة. ثم قال أخيرًا إن بوهادانا ألقت بنفسها من ارتفاع دون أن تتعرض لتهديد مباشر، وأنه غير متأكد تمامًا ما إذا كانت الشاحنة قد هددتها أو طلبت منها أن تفرغ حقيبتها.

في الجانب الإسرائيلي، ظلت الشكوك تساور مقتلها المفاجئ، قبل أن تنشر منصة JNS الإسرائيلية المتخصصة في معاداة السامية تقريرًا تلمح فيه بصورة غير مباشرة بين مقتل بوهادانا في البرازيل، ومقتل السائح الإسرائيلي في مصر قبلها بأسابيع، في إشارة -ربما- إلى رابط خفي بين الحدثين تعتقد المنصة أنه يجب الالتفات إليه. هل كانت بوهادانا تحت تأثير رعب الحرب؟ هل كان ترصدها متعمدًا؟ هل يخفي صديقها، الإسرائيلي أيضًا، تفاصيل “لا يجب أن تُروى” حول الحادثة؟ كل الاحتمالات ممكنة!

لكن كيف استقبل اللاتينيون الحدث؟ كثيرون منهم تعاطفوا معها، لكنهم لم يتغافلوا أبدا عن أنها قادمة من مستوطنة غير شرعية، وأنها بطريقة أو بأخرى كانت تسرق أرض شعب آخر، قبل أن تلقي حتفها، وبدت في تعليقات اللاتينين على الخبر أسئلة مثل: هل كانت تخدم في جيش الاحتلال؟ هل هي جندية احتياط؟ هل هي مع إبادة غزة؟ وغيرها من أسئلة تعكس حضور فلسطين وقضيتها في كل حدث شرق أوسطي مهما بدا إنسانيا وعاطفيا.

(2)

غير بعيد، كان السكان الأصليون في مقاطعة ناريينو الكولومبية، الواقعة على تخوم غابات الأمازون جنوب غربي البلاد، يخوضون نضالًا للمطالبة بتمكين السكان الأصليين في مناطقهم التاريخية، مناطق في قلب الغابة تعاني اشتباكات مسلحة وألغامًا أرضية، على مدار 20 عامًا أو يزيد. ثمة مكان في المقاطعة يحمل اسمًا مثيرًا للانتباه كثيرًا.. اسمه غزة أيضًا!

يشتكي سكانه من التهجير القسري واختفاء المجتمعات.. اختفاءً، للحد الذي جعل غزة الكولومبية لا تظهر على الخريطة أيضًا، أو بالأحرى، كما يعتقد السكان الأصليون، لا يُراد لها أن تظهر من الأساس، إذ أوقعها قدرها التعيس على خط تهريب شهير في الغابات، ومثل تلك الطرق لا يريد لها السيد الأبيض في الشمال أن تُعرف، ولا بد، لمصلحة مصالحه، أن تبقى على هامش الخريطة والتاريخ.

كيف تسمت المدينة غزة؟ ومتى؟ ولماذا؟ ربما يعرف سكانها الإجابة، لكن لم يهتم أحد بسؤالهم من قبل، ولا حتى بسؤال سكان مقاطعة فلسطين التاريخية المتاخمة لقريتهم بمحافظة هوِيلا، في جنوب كولومبيا. فلسطين هذه، تقع على ارتفاع حوالي 2259 مترًا فوق مستوى سطح البحر. لكنها ليست الوحيدة في كولومبيا التي تسمى بفلسطين.

في محافظة كالداس بكولومبيا أيضًا، ثمة بلدية شهيرة بصناعة البن، اسمها فلسطين أيضًا، تقع في قلب منطقة مثلث القهوة الشهيرة في وسط كولومبيا. أدرجتها اليونسكو موقعًا للتراث العالمي باعتبارها جزءًا من المناظر الثقافية للقهوة حول العالم. لكن نصيب فلسطين الكولومبية من فلسطين التاريخية في الشرق الأوسط، أكبر بكثير من مجرد تشابه في اسمها.

يعاني سكان فلسطين في كولومبيا من غياب مطار يخدمهم، رغم أن مطارها الدولي المُسمى “مطار القهوة “Aeropuerto del Café – يقف على حافة الانتهاء منذ أعوام، لكن دون أن يُفتتح رسميًا أو يُعلن عن استقباله الرحلات حتى الآن، ويضطر سكان فلسطين اللاتينية هذه، أن يخوضوا المعابر والطرقات الوعرة حتى يصلوا وجهتهم إلى بلد قريب. تشابه في المصير يبدو أكبر بكثير من تشابه أسماء.. نضال غزة هناك كنضال غزة هنا، ومطار فلسطين العالق في غابات الأمازون، كمطار فلسطين الخارج عن الخدمة في القطاع المحاصر، والسكان الأصليون المعذبون على الطرقات الوعرة، هناك، يخوضون النضال نفسه الذي يخوضه الواقفون اليوم على معابر القطاع وخلفهم مطار يمكن أن يقلّهم في غمضة عين.

(3)

ربما لهذه النضالات المشتركة، يمكن لنا أن نفهم لماذا يُحب الكولومبيون فلسطين، ولماذا يصدع الرئيس الكولومبي منذ لحظة الحرب الأولى بالدعم الممكن للمحاصرين في القطاع، ولماذا تخرج المظاهرات هناك رافعة لافتات تطالب بحقوقهم إلى جوار حقوق شعب فلسطين، والتي -لأكثر من كونها مصادفة- تبدو لافتات واحدة، ولماذا يغنون أغاني تشي جيفارا لروح الشهداء في قطاع غزة كما يغنوها للقائد اللاتيني العظيم.

اليوم، وفي مشهد الحرب في شهرها الثامن، بدا واضحًا أن التضامن مع فلسطين وقضيتها وشعبها أكبر بكثير من موقف سياسي أو جغرافي ضيق، بل نضال إنساني جامع يصطف إليه كل المضطهدين في كل مكان، ويهتف باسمها كل مظلوم من السيد الأبيض في الشرق أو الغرب، ويتسمى باسمها الشرفاء في آخر الأرض اقتداءً وانتماءً.

وبينما يختلق كثير من المؤثرين العرب الأعذار عن ذكر فلسطين، ويتخاذل عن عمد سياسيون عرب في التنكيل في الدفاع عن غزة أو الوقوف إلى جوارها، نسمع من بعيد جدًا صوت هتافات الفقراء والمهمشين في العالم البعيد، يهتفون لغزة، ولشعب غزة، ولنضال غزة.. حتى لتكاد تخطئ في كل مرة، أي غزة يقصدون؟ غزتهم أم غزتنا؟

وبقليل من التأمل، تجد هذا التمييز غير مهم على الإطلاق، ففلسطين هناك، هي فلسطين هنا، وغزة اللاتينية، هي نفسها غزة القطاع المحاصر عند أطراف المتوسط.

شارك

مقالات ذات صلة