فكر

سوريون غرباء على أرض واحدة

مايو 11, 2025

سوريون غرباء على أرض واحدة

حسام حمّود

بعد أكثر من أربعة عشر عاماً من الحرب، لم تخلِّف المعارك وحدها ندوباً عميقة في الجغرافيا السورية، بل زرعت انقسامات اجتماعية ونفسية يصعب رأبها. السوريون اليوم ليسوا فقط منقسمين سياسياً، بل باتوا يشعرون بأنهم غرباء عن بعضهم البعض، كأنهم لم يعيشوا يوماً في وطن واحد.

في دمشق، يعيش البعض شعوراً بالاستقرار، يمشون في شوارعهم التي لم تغب عنها ملامح الدولة وإن كانت قد اختنقت بالفساد والفقر والخوف. وفي إدلب، كبر جيل كامل تحت القصف، دون مدارس أو مؤسسات رسمية، دون شعور بالحماية. هؤلاء لم يعودوا يتكلمون اللغة ذاتها، لا بمعناها اللساني بل في الإحساس، في سرديات الحياة، في التعاطي مع الماضي والمستقبل.

إننا نعيش في بعدين مختلفين تماماً: بعدٌ تغلب عليه ذكريات نظام الأسد، وآخر تغرقه آثار الثورة ضده. والهوة بينهما ليست سياسية فحسب، بل شعورية وثقافية وإنسانية.

أتواصل يومياً مع العشرات من الأصدقاء من مختلف الطوائف والانتماءات. نسأل ونتحاور ونختلف أحياناً، لكن يبقى لدي سؤال واحد لم أجد له جواباً حتى الآن: هل تعرف بشكل شخصي أحداً من أولئك الذين ارتكبوا المجازر أو قتلوا الناس في الشوارع؟

والجواب دائماً: لا.

فمن هم إذاً؟ هل هم كائنات فضائية غزت بلادنا فجأة، كما دمرت بلدان كالعراق ولبنان بطائفيتها من قبل؟

من هم، إذا كنا جميعاً لا نعرفهم، ولا نملك اسماً واحداً لقاتل من محيطنا؟

هل صنعنا وحشاً وهمياً نحمله خطايانا؟ أم أننا تواطأنا على الصمت لنحافظ على نجاتنا الفردية؟

وهذا الجهل بالآخر هو ما يفتح الباب واسعاً أمام الخطابات الطائفية بمعناها القبائلي، لا الديني فقط. كل مجموعة تخشى الأخرى، تظن أنها تخطّط للهيمنة، أو لسرقة مكاسب الثورة على حسابها. وهكذا تُطلق الأحكام وتُبنى التصورات لا على المعرفة، بل على التوجس والبعد. ما لا يدركه مروّجو هذا الخطاب أن المركب واحد، وأنه إن غرق، فسنغرق جميعاً، دون استثناء.

هذا الخوف ليس وليد اللحظة، بل نتيجة سنوات من الدعاية والانفصال القسري. لم يرَ السوريون بعضهم في الحياة اليومية، لم يدرسوا معاً، لم يعبروا الجسور المتهاوية ذاتها، ولم يتشاركوا قصص الألم. اليوم، حين يعود التواصل بين هذه المناطق، تظهر فجأة كل تلك الفجوات المؤلمة التي كانت مخفية خلف الجبهات.

إنها ليست مسألة تصالح سياسي، بل معضلة مجتمعية وجودية. كيف نبني مستقبلاً مشتركاً في وطن لم نعد نعرف وجوه بعضنا فيه؟ كيف نصيغ لغة مشتركة بعدما سيطر الخوف والتهديد على مفرداتنا؟

ما تحتاجه سوريا الآن ليس فقط إعادة إعمار البنية التحتية، بل إعادة ترميم الثقة بين أبنائها. نحتاج لبرامج حوار، لتوثيق تجارب الناس في طرفَي المعاناة، نحتاج لأن نحكي ونسمع، لا لنسامح بالضرورة، بل لنفهم من نحن بعد كل هذا الدمار.

السوريون اليوم، في ظل غياب من يملك أجوبة سياسية واقتصادية مقنعة، عليهم أن يسألوا أنفسهم: كيف نتوقف عن أن نكون غرباء على أرض واحدة؟

شارك

مقالات ذات صلة