مجتمع
على وقع سنوات الغربة الطويلة في تركيا، نما جيل من السوريين الذين غادروا وطنهم أطفالاً لم تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، بالكاد بدأوا يكوّنون ملامح وعيهم حين وجدوا أنفسهم فجأة لاجئين في بلد جديد بظروف مغايرة فرضت عليهم النضوج المبكر، إذ لم يكن ذلك اختيارهم أو قرارهم، واليوم يقف هؤلاء الشباب على أعتاب وطنهم الذي أُعلن تحريره في 8 من كانون الأول 2024، تتجاذبهم مشاعر معقدة تجاه سوريا؛ حنينٌ عميق لوطنٍ لم يعيشوا فيه بما يكفي لتشكيل ذكريات راسخة، لكنه ظل حاضراً في وجدانهم كحلم دائم.
مع إعلان التحرير، تصاعد الحديث عن “العودة”، ليثير في نفوسهم خليطاً من الفرح والتردد؛ فبينما يشدّهم الشوق إلى وطنٍ محفور في الذاكرة الجمعية، يخشون من واقعٍ مجهول قد يتبدى لهم مختلفاً عما يتخيلون. في هذا التقرير، نقترب من هذا الجيل الذي يحمل في داخله حباً لسوريا، لكنه يواجه صراعاً عاطفياً وعقلياً حاداً بين مرارة الغربة الطويلة واحتمالية العودة إلى وطن لا يعرفون كيف سيكون شكل الحياة فيه بعد سنوات من البعد.
يُقيم في تركيا، تحت قانون “الحماية المؤقتة“، أكثر من ثلاثة ملايين و750 ألف لاجئ سوري، بينهم 941 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة عشرة، ومليون و371 ألف شاب وبالغ تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والرابعة والستين، وذلك بحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن رئاسة الهجرة التركية.
بالنسبة لآلاف الشباب ضمن هذه الفئة، شكّلت احتمالية العودة المفاجئة إلى سوريا مصدر قلق كبير، إذ كبروا في تركيا، وتكوّنت ملامح هويتهم بين لغتين وثقافتين، ما جعل المجهول القادم يثير في نفوسهم الخوف والتردد.
من بين هؤلاء الشبان، تبرز قصة مرح، وهي طالبة جامعية كبرت في إسطنبول منذ عام 2013، لا تتذكر عن سوريا سوى تفاصيل صغيرة من مدينتها حمص التي غادرتها في سن الثالثة عشرة ولم تعد إليها منذ ذلك الحين، حيث نشأت بين أبناء المجتمع التركي ودرست بلغتهم، وتأثرت بثقافتهم، حتى في أسلوب اللباس الذي تختلف ملامحه بين البلدين.
قالت مرح لموقع “سطور” خلال حديثها إنها أسّست حياتها في تركيا على نمط من الاستقرار الدائم، خاصة في ظل غياب أي مؤشرات جدية على تغيّر الوضع في سوريا أو سقوط النظام، ولذلك حين سمعت بخبر التحرير شعرت بالصدمة، كما كثير من السوريين، لكنها في الوقت نفسه فرحت من أعماقها بخلاص بلدها من الخوف والقصف والدمار.
رغم أن مرح لم تكبر في سوريا، إلا أنها كانت دائماً قريبة منها وجدانياً، إذ أفادت بأنها تنتمي لعائلة معارضة منذ الأيام الأولى للثورة، وتتابع أخبار سوريا منذ طفولتها، وتعرف أسماء المدن والبلدات والمجازر، وتشاهد مقاطع الفيديو التي تعرض الثقافة السورية مثل الأعراس الشعبية أو أجواء الإفطار الرمضاني، وتقرأ كتباً عن الثورة السورية والمعتقلات، لكن تخيلها لفكرة العودة الدائمة لسوريا التي تحبّها مخيفة، لأنها تعرفها كما يُعرف وطنٌ عبر شاشة فقط، فكل شيء سيكون جديداً.
وبين الحنين والخوف، تقف مرح اليوم، كما كثير من أقرانها، على حدود ذاكرة وطنٍ لم يكبروا فيه، لكنه ما زال حاضراً في القلب. ومن بين هؤلاء أيضاً الشاب عبد الرحمن المنحدر من مدينة إدلب، والذي غادرها في سن العاشرة قبل اثني عشر عاماً، ولم يزرها منذ ذلك الحين.
وترى الاختصاصية النفسية آلاء الدالي أن مشاعر التردد التي يعيشها الشباب السوريون تجاه العودة إلى سوريا بعد قضاء سنوات طويلة في تركيا، هي حالة طبيعية؛ فمعظمهم بنى حياة مستقرة نسبياً، اعتاد على نمط يومي، وكون علاقات واندماجاً بدرجات متفاوتة مع المجتمع التركي، ما يجعل فكرة العودة المفاجئة إلى بيئة جديدة، حتى وإن كانت “الوطن”، تولد حالة من التوتر وعدم اليقين، خصوصاً مع استمرار الغموض بشأن الأوضاع في سوريا.
رغم الحنين العميق لسوريا، لا تبدو العودة إليها بالنسبة لكثير من الشباب السوريين في تركيا قراراً بسيطاً أو سهل التنفيذ والخطو باتجاهه؛ فالتحوّل المفاجئ في المشهد السياسي، إلى جانب غموض الواقع الأمني والخدمي في الداخل، يثيران موجات من القلق والتردد.
حلم هؤلاء الشباب بوطن آمن، يقابله الخوف من مستقبل مجهول، ما يجعلهم يعيشون بين مشاعر متضاربة. وفي ظل ذلك، تبرز أسئلة صعبة حول الهوية، والشعور بالأمان، والفرص الحقيقية المتاحة لهم في حال قرروا العودة.
من بين هؤلاء عبد الرحمن، الذي يدرس في تركيا أحد الفروع الهندسية، ولم يتبقَّ على تخرجه سوى فصل دراسي واحد. ومع أن عائلته قررت العودة إلى مدينة إدلب خلال الأشهر المقبلة، إلا أنه لا يشعر بالاطمئنان، خاصة في ظل استمرار عدم الاستقرار الأمني هناك، ويخشى أن يعود إلى مستقبل مجهول بعد سنوات من التعب والجهد في دراسته داخل تركيا، وفق ما أفاد لـ”سطور”.
وعن أسباب تردده، قال عبد الرحمن لموقع “سطور” إنه يوجد العديد من خريجي الجامعات في سوريا، ولا يعلم إن كانت فرصته قوية مقارنة بهم، خاصة أن لغته العربية ليست سليمة تماماً بسبب دراسته باللغة التركية، وتعاملاته اليومية التي تتركز غالباً مع الأتراك، ولا يريد العودة قبل أن يفهم الوضع جيداً أو يؤمّن فرصة عمل مضمونة، لأنه إن غادر فلن يستطيع العودة مجدداً.
اللاجئون السوريون في تركيا يحملون وثيقة “الحماية المؤقتة” (الكملك)، وعند العودة إلى سوريا يُطلب منهم توقيع “العودة الطوعية“، مما يعني تسليم الوثيقة لرئاسة الهجرة التركية. وبحسب الرئاسة، فإن الأشخاص الذين يغادرون تركيا عبر توقيعهم على وثيقة العودة الطوعية، يتم إبلاغهم أنه من الممكن أن يُرفض طلبهم في حال عادوا إلى الأراضي التركية من جديد.
ومن جهتها، توضح الاختصاصية النفسية لموقع “سطور” أن العيش بين بيئتين مختلفتين لفترة طويلة، غالباً ما يسبب نوعاً من الانقسام في الهوية والانتماء؛ فالشخص قد لا يشعر بالانتماء الكامل لأيٍّ منهما، أو يميل لإحداهما، وتختلف بحسب تجربته الشخصية. البعض يفضل بيئة توفر له الأمان، وآخرون يركزون على الفرص الاقتصادية أو الحريات، ما يجعل قرار العودة أو البقاء معلقاً بمجموعة معقدة من الاعتبارات النفسية والعملية.
وترى الدالي أن التعامل مع هذا التخبط يبدأ أولاً بتفهّم أنه طبيعي، ثم بالتركيز على الواقع الحالي لكل شخص، وتحديد ما يمكن فعله في ظل المعطيات المتاحة. كما تنصح بالحفاظ على روتين يومي يمنح شعوراً بالاستقرار، وعدم التردد في طلب المساعدة النفسية أو مشاركة المشاعر مع من يستطيعون تقديم الدعم، لأن التنظيم العاطفي والفكري أساسي لاتخاذ قرار سليم يناسب كل حالة على حدة.
لا تبدو العودة إلى سوريا بالنسبة لكثير من الشباب الذين نشأوا بعيدًا عنها، قراراً بسيطاً أو محسوماً؛ فالوطن الذي حملوه في وجدانهم سنوات، لم يعد كما كان، وهم كذلك لم يعودوا كما غادروه. بين التجذّر في بلد اللجوء والخوف من المجهول في بلد الأصل، تتشكّل معادلة معقدة من الحنين والحذر، تجعل كل خطوة نحو “العودة” بحاجة إلى وقت وضمانات، وربما إعادة تعريف في بعض الأحيان لما تعنيه كلمة “وطن”.