سياسة
شهدت الساحة السورية تحولًا سياسيًا بارزًا مع توقيع اتفاق مبدئي بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحكومة دمشق الجديدة، برعاية أمريكية مطلع آذار الماضي، يقضي بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية ووقف إطلاق النار في كامل الأراضي السورية، مع الاعتراف الرسمي بالأكراد كمكون أصيل وضمان حقوقهم الدستورية. وعلى إثر لقاءين جمعا قائد «قسد» بالرئيس أحمد الشرع، تشكلت لجان مشتركة لتنفيذ الاتفاق قبل نهاية العام.
لكن سرعان ما ظهرت عقبات أعاقت التنفيذ، أبرزها خلاف حول إدارة سد تشرين، حيث تمسكت «قسد» بالإشراف عليه، مما أدى إلى تجميد عمل اللجان المشتركة. ورغم خطوات أولية كالدوريات المشتركة وانسحاب جزئي من خطوط التماس، توقفت العملية، وبدأ تبادل الاتهامات، مع فرض «قسد» شروطًا جديدة وتراجعها عن بعض التعهدات. وتُعزى هذه التباطؤات جزئيًا إلى رغبة “قسد” في الاحتفاظ بملفات استراتيجية حساسة، مثل إدارة السجون التي تضم آلاف المعتقلين من تنظيم داعش، والإشراف على مخيمات ضخمة كالهول، فضلًا عن التمسك بعائدات حقول النفط في شرق الفرات، التي تمثل شريانًا اقتصاديًا رئيسيًا لها.
في السياسة، لا تُقاس القوة بما تملكه فقط، بل بما تفعله بها في اللحظة المناسبة. كما قال كيسنجر: “إن امتلاك أوراق القوة لا يعني أنك ستحتفظ بميزة التفوق حين توضع كل الأوراق على الطاولة غدًا”. على ضوء هذا المفهوم، تثير مواقف «قسد» في التعامل مع اتفاقها مع دمشق تساؤلات حول مناوراتها، وحدود رهانها على الوقت والتريث.
تُعد قضية معتقلي تنظيم داعش أحد أبرز أسباب تباطؤ “قسد” في تنفيذ الاتفاق مع حكومة دمشق الجديدة، نظرًا لثقلها الأمني والسياسي. فهذه الورقة، التي تحتفظ بها “قسد” منذ سنوات، باتت تمثل حجر الأساس في علاقتها بالتحالف الدولي، وركيزة لديمومة الدعم الغربي سياسيًا وعسكريًا. تدير “قسد” ما يقارب 12 مركز احتجاز في مناطق نفوذها، تضم نحو 10 إلى 13 ألف معتقل من عناصر داعش، بينهم ما لا يقل عن 2000 مقاتل أجنبي من جنسيات مختلفة، موزعين على سجون محصنة، أبرزها سجن غويران في الحسكة، الذي يحتجز وحده نحو 5000 عنصر، ويُدار بالتعاون مع قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
من خلال هذا الملف، برزت “قسد” كطرف أساسي في الحرب ضد الإرهاب، ما مكّنها من كسب شرعية دولية والحصول على تمويل ودعم لوجستي تحت غطاء مكافحة داعش. ويدرك قادة “قسد” أن تسليم هذه السجون أو تقاسم إدارتها مع الحكومة الجديدة قد يضعف موقعهم التفاوضي، ويعرضهم لفقدان أحد أهم أسباب بقائهم كفاعل مؤثر في المشهد السوري. لهذا، عبّر قادة قسد عن رفضهم العلني لفكرة تسليم السجون، معتبرين أن إدارتها “مسؤولية حصرية مشتركة” مع التحالف الدولي، وليس مع حكومة دمشق.
أما على المستوى الأمني، فتخشى “قسد” أن يؤدي نقل ملف السجون إلى تقويض نفوذها الميداني، إذ تشكل هذه المعتقلات نقطة ارتكاز أمنية في مناطق سيطرتها. ومع تزايد محاولات تنظيم داعش لشن هجمات على هذه السجون، كما حصل مرتين منذ سقوط النظام السابق أواخر عام 2024، تبرر “قسد” تمسكها بالملف بحجة منع انفلات أمني خطير، خصوصًا مع تقارير عن تراجع الرواتب وتساهل بعض الحراس، مما زاد من محاولات الفرار التي أُحبطت في اللحظات الأخيرة.
ورغم هذه الذرائع الأمنية، فإن السلوك التفاوضي لـ”قسد” يشير إلى أنها تضع هذا الملف في خانة “المقايضة السياسية”؛ فهي لا ترفض نقله بشكل قاطع، لكنها تربط أي خطوة بهذا الاتجاه بضمانات مستقبلية تتعلق بوضعها السياسي، من قبيل الإقرار بصيغة لا مركزية موسعة أو الاعتراف بمؤسسات الإدارة الذاتية. لذلك، فإن هذا التباطؤ في هذا المحور يعكس حسابات استراتيجية، لا مجرد مخاوف أمنية، ويشكل أداة ضغط تفاوضية بيد “قسد” لتعظيم مكاسبها في لحظة التحول السياسي الحاسمة.
إلى جانب السجون، تُعد مخيمات احتجاز عائلات تنظيم داعش من أهم أوراق الضغط التي تحتفظ بها “قسد”، وعلى رأسها مخيم الهول سيئ الصيت ومخيما العريشة وروج في ريف الحسكة. تؤوي هذه المخيمات عشرات الآلاف من سوريين وعراقيين وأجانب، وتسعى “قسد” إلى تخفيف العبء عبر إخراج العوائل السورية وتسليم العراقيين، لكنها تحتفظ بالأجانب بحجة أن دولهم ترفض استعادتهم، ما يُبقي باب الدعم الدولي مفتوحًا.
لقد استثمرت “قسد” ملف المخيمات سياسيًا وماليًا، إذ توفر الأمم المتحدة والجهات المانحة تمويلًا كبيرًا للخدمات الأساسية، وتشير تقارير إلى أن التمويل تجاوز 200 مليون دولار في السنوات الأخيرة. ومع تراجع هذا التمويل مؤخرًا، تفاقمت الضغوط على “قسد”، ما كشف مدى اعتمادها على هذه الموارد للبقاء. كذلك، تتخوف “قسد” من فقدان سيطرتها الأمنية إذا سلمت إدارة المخيمات للحكومة، خاصة مع تقارير عن نشاط خلايا نسائية متشددة، ومحاولات لتجنيد الأطفال، وفضائح فساد وتهريب لمعتقلي داعش مقابل المال.
ولهذا، تتريث “قسد” في نقل الملف، وتبقيه تحت إدارتها كورقة تفاوضية حيوية تضمن استمرار الدعم الدولي وتمنع انكشاف نفوذها قبل اتضاح ترتيبات ما بعد الاتفاق مع دمشق.
ميدانيًا، مر تنظيم داعش بمرحلة من الكمون قبيل سقوط النظام خريف 2024، تراجعت خلالها هجماته بشكل ملحوظ. لكن اللافت أنه منذ أكثر من شهرين تقريبًا بدأ يتحرك مجددًا بشكل مريب، مستهدفًا مناطق سيطرة “قسد” تحديدًا، بينما بقيت مناطق الحكومة الجديدة غرب الفرات أكثر استقرارًا. تشير تقارير ميدانية إلى تنفيذ التنظيم ما بين 8 إلى 12 هجومًا شهريًا في مناطق دير الزور والرقة خلال الربع الأول من العام، ما أثار تساؤلات حول دوافع التنظيم، وما إذا كان يعيد تنظيم صفوفه فعلًا، أم أن “قسد” تسلط الضوء على هذه التحركات ضمن سياق التذكير المستمر بخطر التنظيم.
في هذا السياق، يبدو أن “قسد” تستخدم ملف داعش لتأخير تنفيذ الاتفاق مع دمشق، بحجة أن خطر التنظيم لم يُحتوَ بعد. فهي تربط دمج قواتها بحسم ملف مكافحة الإرهاب أولًا، ورغم أن هناك أطرافًا سورية أخرى قاتلت التنظيم وتمتلك خبرات في قتاله، إلا أن قسد تقدم نفسها كخط الدفاع الأول في مواجهته، في محاولة لكسب مزيد من الوقت، وضمان استمرار الدعم الدولي. والأهم، أن هذه الاستراتيجية تهدف لتأخير الانسحاب الحتمي للقوات الأميركية من الشرق السوري، الذي بدأت ترتسم معالمه عبر مغادرة عشرات الشاحنات التي تحمل المعدات والتجهيزات من قواعد العمر وكونيكو. فكل تصعيد في التحذيرات من عودة داعش يُقابَل عادة بتجديد التزامات الدعم الغربي، وهو ما تراهن عليه “قسد” لترتيب أوراقها قبل أي تغيير جذري في المعادلة.
شكل ملف النفط في شرق سوريا محور الخلاف الأبرز بين “قسد” وحكومة دمشق، إذ تضم المنطقة نحو 90% من الثروة النفطية السورية، والتي مثلت لسنوات الشريان الاقتصادي الرئيسي للإدارة الذاتية.
تشير تقارير إلى أن إنتاج النفط في مناطق “قسد” بلغ ما بين 70 إلى 80 ألف برميل يوميًا خلال العام 2023، معظمه كان يُصدر قبل سقوط بشار الأسد إلى مناطق سيطرة النظام ومناطق المعارضة أو يتم تهريبه للعراق. وبعد توقيع اتفاق الدمج، سعت دمشق لاستعادة إدارة هذا القطاع الحيوي، وبدأت بالفعل تشكيل لجان لاستلام الحقول تدريجيًا.
لكن “قسد” رفضت تسليم الملف بسهولة، معتبرةً النفط ورقة تفاوضية أساسية، ومصدرًا حيويًا لتمويل مؤسساتها ودفع رواتب مقاتليها، فضلًا عن تعزيز نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي سياسيًا عبر توفير الخدمات، وكشفت مصادر عن طلبها حصة تبلغ 30 بالمئة من إنتاج نفط الشرق السوري، بحجة تنمية المنطقة، مع أن اتفاق الدمج يقضي بتحمل حكومة دمشق كامل المسؤوليات المالية والتنموية.
ذلك يفسر تمسك “قسد” بإبطاء العملية التنفيذية: فهي وإن وافقت نظريًا على إعادة النفط للدولة، إلا أنها تبطئ الخطوات العملية بانتظار ضمان مصالحها المالية وضمانات دولية بعدم ملاحقة تعاملاتها السابقة. تدرك قيادة قسد أن النفط كان مصدر القوة الأهم لـPYD، إذ مكنها من كسب ولاء شريحة واسعة من السكان عبر دفع الرواتب وتقديم الخدمات، ما عزز ثقلها السياسي. لذا فإن التخلي السريع عن هذا الملف دون ترتيبات تعويضية واضحة يعني خسارة مزدوجة: مالية وسياسية، وهو ما لا تبدو مستعدة له حاليًا.
يمكن تلخيص تباطؤ “قسد” في تنفيذ الاتفاق بجملة حسابات داخلية وخارجية متشابكة. داخليًا، تخشى أن التخلي السريع عن أوراق قوتها، كالسجون والمخيمات والنفط، سيضعف نفوذها ويهز تماسكها، خصوصًا مع رفض أنصارها تقبّل سيطرة دمشق وخوف قيادتها الأمنية من الملاحقة وانتقام الأهالي، إضافة إلى قلق مقاتليها من الاندماج المباشر في جيش كانوا يحاربونه. هذه المخاوف تدفعها للمراهنة على الوقت بانتظار اتضاح ملامح المستقبل السياسي.
خارجيًا، تتابع “قسد” بحذر موقف واشنطن التي رعت الاتفاق، لكنها تاريخيًا دعمت “قسد” لمواجهة داعش، لذلك تأمل الأخيرة في استمرار الدعم الغربي أو تعديله لصالحها، وربما تكسب مكاسب إضافية إن أبدت تريثًا. وتشير تقارير إلى أن “قسد” أجلت بعض الالتزامات بانتظار ما ستقرره إدارة ترامب الحالية بخصوص سوريا ومدى استعدادها للإبقاء على وجودها العسكري، وكانت تراهن على موقف فرنسي حازم إلى جانبها، ولكن مع زيارة الرئيس الشرع لباريس ربما لن يكون هذا التعويل واقعيًا بعد اليوم.
بالتوازي، تراهن “قسد” ضمنيًا على احتمال تعثر حكومة الشرع الجديدة أو تصاعد الخلافات داخلها، أو حدوث أمر جلل يغير قواعد اللعبة في دمشق، كما حصل في أحداث الساحل والسويداء مؤخرًا، ما قد يمنحها فرصة لإعادة طرح مطالبها بالحكم الذاتي أو تعديل شروط الاتفاق.
إلا أن سياسة الانتظار هذه، في لحظة تحولات إقليمية سريعة، قد لا تؤتي ثمارها. فكما يقول ميكافيلي في الأمير: “الذين يتركون الأمور لتمضي على هواها، قلّما يحالفهم النجاح”. والاستحقاقات السياسية لا تنتظر من يتردد طويلًا.
إذ إن تباطؤ “قسد” في تنفيذ الاتفاق ينطوي على مخاطر جسيمة، خاصة إذا أخطأت التقدير في موازنة الضغوط الإقليمية والدولية. فتركيا، التي تعتبر الوحدات الكردية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، تترقب أي تعثر لتبرير تدخل عسكري أوسع، وقد رأت في الاتفاق فرصة لنزع شرعية بقاء “قسد” المسلح، ملوّحة بإمكانية تولي إدارة السجون والمخيمات بدلًا منها. كما أن تفاهمات إقليمية بدأت تتبلور، والتنسيق بين الحكومة السورية والتركية سياسيًا وأمنيًا وصل إلى مراحل متقدمة، ما يهدد موقع “قسد” إن استمرت في سياسة التريث.
ويستحضر البعض هنا درس 2019، حين توصل الرئيس التركي أردوغان إلى تفاهم مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، سحب بموجبه الأخير القوات الأمريكية من طريق الجيش التركي في شمال سوريا، ما شكّل صدمة استراتيجية لـ”قسد” كادت تفقدها كل مكاسبها، لولا استعانتها الطارئة بدمشق وروسيا آنذاك. واليوم، رغم اختلاف المعطيات، يبقى خطر تكرار السيناريو قائمًا، فتركيا لا تزال تملك ثاني أكبر جيش في الناتو، وقد تسعى لتحرك جديد إذا رأت أن الاتفاق يتعثر بسبب “قسد”، خاصة إن حصلت على ضوء أخضر دولي صريح أو ضمني لـ”تأديبها”.
التريث قد يمنح بعض المكاسب المؤقتة، لكنه لن يضمن نتائج دائمة، بل ربما يضع “قسد” في موقع من يتجاوزه الآخرون في ترتيبات ما بعد الحرب، وقد صدق الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون حين قال: “الوقت في السياسة ليس دائمًا حليفًا… بل قد يكون حكمًا قاسيًا”. وإن لم تتحرك «قسد» الآن لتطبيق الاتفاق وتحصيل ما يمكن، فقد يأتي الحكم قريبًا، من دون فرصة للاستئناف.