تأملات
يحدثُ أن تشاهد صورةً لطعامٍ تحبّه، تخرج منه أعمدةُ البخار، وحوله تتحلق العيون اللامعة وهي تنظر له بفرح، فتشتهيه، وتقرر أن يكون الوجبة القادمة لك، ويحدثُ أن يسألك أحدٌ عن أكثر أكلة تحبها فيقفز إلى ذاكرتك طعمٌ فريد تعرفه جيداً لأنّ له مذاقاً خاصاً في فمك، أو أن تشمَّ رائحة طعامك المفضّل فتشعرَ بسعادةٍ ما
كلُّ ذلك لم يعد يحدث لي !
يأخذني هذا إلى كُنه الاشتهاء، وأين يكمن وفيمَ يدور؟ وهل الاشتهاء مرتبط بأطعمة دسمة أم هل يمكن أن يكون عبارةً عن قطعة من رغيف خبز!
ومتى يصبح الاشتهاءُ اشتهاءً؟
الاشتهاء الدنيويّ إمّا أن يكون اشتهاءً نورانياً أو معتماً وأيضاً إمّا أن يكون نقيّاً أو شائباً، وأستطيع التمييز بين شخصين من كيفية الاشتهاء، بمعنى أنّ الذي يشتهي باستمرار طعاماً دسماً فإنّ جسده غالب، وروحه مغلوبة، والذي يشتهي أطعمة خفيفة بسيطة فإنّ جسده مغلوب وروحه غالبة!، ولذلك فكلّما كان الاشتهاء بسيطاً ومتواضعاً كان مكتملاً وكلما كان كبيراً ومتطلباً كان ناقصاً
تحضرني قصة سيدّتي فاطمة الزهراء عليها السلام، وقد اشتهت حبّة رمان، وحين اشتراها لها سيّدي علي كرم الله وجهه، قابله رجل مسكين وطلب منه أن يطعمه منها، فقسم له نصفها، ولم يكن معه نقود ليشتري سواها، وحين عاد أخبر السيدة فاطمة بما فعل فقالت له: “خيراً فعلت”، وأكلت جزءاً وأعطت جزءاً لسيدي علي وبينما هما يأكلان نصف رمانة دخل عليهما سيّدي سلمان الفارسى وأعطاهما رماناً أرسله لهما رسول الله ﷺ كان عدد الرمانات عشراً، فقال سيدنا علي كرّم الله وجهه: الحسنة بعشرة أمثالها
وأقفُ عند معنى أن تشتهي سيدة نساء العالمين حبة رمان، وفي ذروة الاشتهاء تتصدق بنصفها، فتأتيها المكافأة الإلهية بسرعة، “مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً”
يعني أن تعطي وأنت في ذروة اشتهائك للشيء ولا تملك سواه، ليس كما تعطيه وهو متوفر لديك، لذلك إيثار الفقراء عند الله أعظم بكثير من صدقات الأغنياء.
يُقتَلُ سيّدنا الحسين عليه السلام، ظامئاً لقطرة ماء!
وهذا أقسى معنى للاشتهاء، وأكثره ألماً، فيتغير مفهومه، إنّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغيّرون مفهوم الاشتهاء في قواميسنا ومداركنا حين نحاول تتبعه وتحسسه، فتسقط كل الصور الأخرى المغلوطة للطعام، وكل موائد الطعام الفاخرة، تسقط البهرجة الكبيرة للعزائم الضخمة، وكيفية تقديم صحن طعام مقروناً بمئة طبق مقبلات، وأحياناً نشاهد طبقاً مزيناً بأكثر من نوع طعام، لستُ طبعاً ضدَّ أن تكون المائدة جميلة وعظيمة، لكن ليس هذا اشتهاؤنا، وليست هذا أصلُ مدارك شهوتنا في الطعام إذا صحَّ التعبير !
حين تتبعت ثيمة الاشتهاء في القرآن الكريم وأجعله هنا في الطعام حصراً، كون باب شهوة الطعام هو الباب الرئيسي لشهوات الجسد، وجدت كل مسميات الاشتهاء مقرونة بالجزاء في الجنة، وكأنّني أقفُ أمام تصنيفين في الحقيقة ( اشتهاءٍ دنيويّ، واشتهاءٍ أخرويّ )
وكأنّ الاشتهاء بكنهه الحقيقي ومعناه الجامح هو مكافأة أخروية، “وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ”، “وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ”، “وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُون”، لم أجد هذا المعنى مقروناً في أي شيء دنيويّ في سياق أنّه مكافأة إلهية
لا أعرف لماذا أخذني أيضاً هذا التأمل إلى المائدة التي طلبها الحواريون من سيدنا عيسى عليه السلام، لتطمئن قلوبهم، ولا أعرف أيضاً لماذا أشعر أنّه أمر مخجل أن يطلب المرء من الله أن ينزل عليه مائدة من السماء، وكأنَّ الدليل على الله عز وجلّ أن يُنزل عليك مائدة بما لذ وطاب، ولذلك في الآية القرآنية ” قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ” بالتأكيد فليطلب المرء ما شاء من الله عز وجل والجميل أنّه ليس هنالك سقف للطلب، اطلب ما تشاء فهو رب عظيم خزائنه ملأى، ولكنّ أسلوبهم في الطلب لم يكن جميلاً، إذ لم يكن طلباً من أناس قد وقر الإيمان في قلوبهم، يقول الله عز وجل في محكم تنزيله على لسان الحواريين “هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ”، فكان ردّ سيدنا عيسى عليه ” اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”، حتى إنّ ردّ سيّدنا عيسى عليه السلام يوحي بالصدمة، بما معناه كيف تطلبون هذا الأمر ليقول مستهجنناً: عليكم أن تتقوا الله، والعجيب أنَّ ردهم كان ” قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ” يعني وكأنّهم يقولون نحن نريد أن نأكل من مائدة ربك لتطمئن قلوبنا، لا أعرف كيف يرتبط اطمئنان القلب بأن تأكل طعاماً شهياً، مسألة الطمأنينة القلبية مسألة جدا راقية وعظيمة، وإنّ القلب الذي يطمئن مقابل أن يتحصل على طعام أو شيء ماديّ فهو قلبٌ فيه خلل معرفي بالله عز وجل، فالقلب المطمئن هو القلب المملوء بالنور الإلهي، غير ملتفت إلى هذه المعاني المادية الفانية، لذلك كان اشتهاؤهم ذاك اشتهاءً مستوجباً للتهديد من رب عظيم علينا أن نقدره حق قدره، حين قال سبحانه وتعالى ” إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ” وقد أسسَّ الله عزّ وجل إلى الأساس الرئيسي للطمأنينة وقد قال سبحانه وتعالى ” ألا بذكر الله تطمئن القلوب “
القلوب المطمئنة يمرُّ عليها الاشتهاء مروراً سريعاً خفيفاً بطريقةٍ غير متوحشة، لا تحتاج إلى جهدٍ عظيم وهي تناوره وتحاربه، لأّنها قلوب يكمنُ فيها محطّ النظر الإلهي، وحين يكون القلب محطّ نظر الله عز وجل، فإنَّه لن يترك الحبيب قلب حبيبه يشتهي شيئاً فلا يحدث، وحين يتمنّى شيئاً تُساق أمنيته إلى حيث كان ورغماً عنها
أسأل الله عز وجل أن يجعل قلوبنا مطمئنة ويرزقنا الفهم والحكمة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




