آراء
في الثامن من أكتوبر، وبعد انقشاع الضباب وإبرام القرارات في أقبية البَلاط، بدأت كل وسائل الإعلام العربية، بإعلاميّيها وقنواتها ومحلّليها الوهميين، وبصوتٍ واحد ومنطق واحد، تزرعُ في عقل المواطن العربي تبريرَ مشاهدة الإبادة بصمتٍ على أنّها ضرورة للنجاة بالوطن. وخلال أيام أُطلق سراح الذباب الإلكتروني وحتى البشري وانطلق يردّد هذه النظرية في كل موقع ومنصة ومنشورٍ وتعليق. ولكن، أهذا هو الحق فعلا؟
قبل الإجابة يتعيَّن علينا أن نفهم، ما هو تعريف الوطن؟ عيشٌ ونومٌ وسكن؟ أم قرارٌ بالذل عُجِن؟ أم حاكمٌ لا يؤتمن؟ أم بيعنا بدون ثمن؟ أم أنه شعبٌ دُفِن؟ وآخرٌ ظُلمًا سُجِن؟ رَسَمَ الحدودَ له نتِن، وصانها لهُ مرتهن! إن لم نصُن معنى الوطن، فلا تحدِّثني إذَن، عن النجاة وعن وعن…
هذه الأوطان التي تبررُ آلةُ الإعلامِ الرسمي بيعَ غزة لأجلها، قد سُلبت قيمتها منذ زمن، فقرارها يأتي مختومًا من سفارة هنا أو قاعدة عسكرية هناك، ويتلوه الإعلام على البث الحيِّ أحيانًا قبل أن يصل إلى رأس الهرم! بل في الحقيقة قدمت غزة فرصة ذهبية لاستعادة الإقليمِ مكانته بين الأمم ولكن للأسف لم يتمّ انتهازها! ألم تكن هذه الإبادة المستمرة منذ سنة ونصف سببًا كافيا مبرَّرًا لاتخاذ موقف حاسم يُعيد للعُرب هيبتهم؟ لو لوّحت الدول العربية بملف النفط أو الممرات المائية أو تركت من يريد دعم غزة يعمل بهامش من الحرية، لكان هذا كفيلًا بأن يجعل الكوكب بأسره يحسب لها ألف حسابٍ وحساب!
وإنِ افترضنا أنَّ تخلي العرب عن فلسطين كان لأجل حماية الأوطان، فماذا حلَّ بأمن مصر المائي؟ وماذا حلَّ بشعب السودان؟ وما مخرجُ الأزمة الليبية؟ ومن يقف وراء الفتنة المغربية الجزائرية؟ ولماذا تُبتزُّ سوريا وهي لم تلتقط أنفاسها بعد؟ أليس جليًّا أنَّ من يقف وراء كل هذا هو نفسه ذاك المجرم الذي يقتل أبناء جلدتنا على أعيننا؟ كيف يأمنُ الباقون على أنفسهم منه وهم يرونه يفتت الإقليم العربي ويقضمه كيفما يشاء دون رادع!
أمّا غزَّة فقد أدَّت ما عليها تجاه الأمَّة العربية والإسلامية على أكمل وجه، ولكن للأسف لم تتجرأ دولة واحدة أن تؤدّي ما عليها تجاه نفسها، بل آثروا المزيد من الخنوع مقابل ذلٍّ مستترٍ بقناع الأمن والاستقرار. نعم، غزَّة هي سفينة النجاة، رغم أنَّ ظروف الإبحار القاسية، وجهدُ البحّارة عظيم، وتماهي الأشرعة مع العواصف تحدٍّ كبير، ولكن هذه ضريبة النجاة من جزيرة قاحلة في وسطَ المحيط، تغرق شيئًا فشيئًا وتُقضَمُ أطرافها يومًا بعد يوم، حتى تفنى بدون شرف المحاولة على الأقل.
لن تستقيم حالنا إلّا عندما ندرك أنَّ للتحوُّلِ من الذل إلى العزِّ ضريبة ولن يدفعها سوانا، سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول، أمّا التنازل فيجرُّ تنازلات، وإيثار البقاء في المساحة الآمنة لن يضمن بقاءها آمنة، ومن أراد السلام عليه أن يحارب لفرضه بالقوة. وختاما نقول، من ركب سفينة الطوفان نجا، ومن خرقها لا خير منه سيُرتجى.




