سياسة

بناء الهيمنة: التنافس التركي الإماراتي في القرن الأفريقي

مايو 30, 2024

بناء الهيمنة: التنافس التركي الإماراتي في القرن الأفريقي

تُعتبر منطقة القرن الأفريقي، التي تضم ثماني دول، وهي السودان، الصومال، جنوب السودان، جيبوتي، إثيوبيا، إريتريا، أوغندا، وكينيا، مركزًا جيو-اقتصاديًا ذا أهمية قصوى لدول الشرق الأوسط، حيث تتنافس القوي الإقليمية، وخصوصًا دول الخليج العربي إلى جانب تركيا، إيران، وإسرائيل، على تعزيز استثماراتها وبسط نفوذها. في هذا السباق، تبرز الإمارات وتركيا كفاعلين مؤثرين، ويشتد التنافس بينهما، تنافس جيو-اقتصاديً يتبعه تنافس أيديولوجي وصراع على مساحات النفوذ في دهاليز السياسة الداخلية لدول القرن الأفريقي.


في العقد ونصف العقد الماضي، شهدت المنطقة تدفق استثمارات خليجية تفوق قيمتها 100 مليار دولار، مشكّلةً نحو 30% من جملة استثمارات هذه الدول خارجياً، وقد استأثرت الإمارات بنصف هذا المجموع تقريباً. فمنذ موجات “الربيع العربي”، برزت الإمارات كقوة متوسطة تسعى لتوسيع نفوذها في القرن الأفريقي، مدفوعة برغبة في تأمين مصالحها والحد من تأثير الإسلام السياسي، الذي تَعْتبر تركيا أردوغان منبره الرئيسي. ولاحقًا أثناء النزاع اليمني، كُشفت عن بُعد ثنائي للمصالح الإماراتية، وهما: كبح جماح الإسلام السياسي والتصدي للنفوذ الإيراني وحلفائه من باب المندب وحتى العمق الأفريقي.


تبعاً لذلك، تضاعفت البعثات الدبلوماسية الإماراتية في القارة خلال الخمس عشرة سنة الماضية، مع تركيز خاص على منطقة القرن الأفريقي، حيث أنشأت الإمارات سفاراتٍ لها في جميع دول القرن الأفريقي عدا جنوب السودان وإريتريا. وعلى الصعيد الاقتصادي، أمست الإمارات رابع أكبر مستثمر في أفريقيا بعد الصين، أوروبا والولايات المتحدة. وبرز صندوق أبو ظبي للتنمية كأحد أنشط الجهات في تمويل المشاريع الأفريقية، حيث قدّم تمويلًا لأكثر من 66 مشروعًا في 28 دولة أفريقية بقيمة 16.6 مليار دولار في عام 2018. وجيو-اقتصاديًا؛ سعت الإمارات لخلق منظومة لوجيستية تربط تجارتها عبر القارة بدءًا من البحر الأحمر ومضيق باب المندب، كمحاولة تأمين بديل لمضيق هرمز في ضوء التوترات مع إيران. 

 

شركة موانئ دبي العالمية، أكبر مؤسسات الإمارات اللوجيستية، عقودها الأولى في منطقة القرن الأفريقي بداية مع جيبوتي عام 2006، وتوسّعت لتشمل موانئ أخرى في بوساسو، كيسمايو في الصومال، وميناء بربرة في أرض الصومال الساعية للاستقلال، ثم بنت الإمارات قاعدة عسكرية لها في إريتريا.


هذه التحركات تُمثّل مشروع الإمارات لنسج علاقات تجارية وسياسية عبر استراتيجية ربط الطرق بالموانئ في مناطق حضورها. وقد وصف نيل مالفين، الخبير البريطاني في شؤون شرق أفريقيا، مشاريع الإمارات في القرن الأفريقي بأنها “سلسلة اللؤلؤ الإماراتية”، وهي تحاكي النموذج الصيني للحزام والطريق، مؤكدًا على أن الإمارات تتبع طريقة مماثلة في توسيع نفوذها عبر مشروعات بنى تحتية استراتيجية.


ومن جهة تركيا؛ فمنذ المبادرة الرائدة من رجب طيب أردوغان الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، معلنًا عن “عام أفريقيا” في 2005، انطلقت تركيا نحو تعزيز نفوذها في القارة. هذا التوجه لم يقتصر على توسعة الشبكة الدبلوماسية، التي شهدت زيادة عدد السفارات من 12 في عام 2003 إلى 44 بحلول عام 2021، بل تعداه إلى تنامي وجهات الخطوط الجوية التركية التي عززت التبادل التجاري والاستثماري بين تركيا ودول القارة.


اقتصاديًا؛ ارتفعت التجارة بين تركيا وأفريقيا من 5.4 مليار دولار في عام 2003 إلى 40 مليار دولار في 2023، مع استثمارات تركية مباشرة وصلت إلى نحو 10 مليارات دولار بنهاية عام 2022، تركز بشكل كبير في قطاعات البناء، السلع المنزلية، والأجهزة الإلكترونية. وبالتوازي مع النفوذ الاقتصادي، أسهمت تركيا في تعزيز العلاقات الثقافية والدينية، حيث “تُدبلج” المسلسلات التركية باللهجات المحلية كالصومالية، وتُشيد المرافق الدينية التي تُقدم أنشطة خيرية موسعة. وختمت ذلك بتأمين وجودها الأمني، حيث أنشأت أول قاعدة عسكرية لها في الصومال، وهو ما يعكس استراتيجية موازية للإمارات التي أقامت قاعدة عصب في إريتريا.


لازال تصاعد التنافس بين البلدين مستمرا، ففي الأشهر القليلة الماضية، قامت شركة ألفا إم بي إم للاستثمارات، مقرها في دبي، بإبرام صفقة قيمتها 4 مليارات دولار لإنشاء مصفاة نفط في أوغندا، التي توافق الإمارات في كثير من الرؤية الاستراتيجية، بطاقة معالجة تصل إلى 60 ألف برميل يوميًا.


ومن جانبها، وقعت تركيا في 7 مارس من العام الجاري اتفاقية اقتصادية مع الصومال، تركز على التنقيب واستغلال الهيدروكربونات في المنطقة الاقتصادية الخالصة للصومال، مع خطط لبدء التنقيب مع بواكير عام 2025. وتشير التقديرات الأمريكية إلى وجود ما يقارب 30 مليار برميل من احتياطيات النفط والغاز في البلاد. كما وقعت موانئ دبي العالمية، هي الأخرى، في منتصف مايو الجاري مذكرة تفاهم مع حاكم إقليم دارفور، منى أركو مناوي، بهدف نقل تجربة دبي في تطوير الموانئ الجافة وتشييد الطرق وتأهيل السكك الحديدية، وذلك في ظل توترات تتهم فيها الحكومة المركزية في الخرطوم الإمارات بدعم ميليشيا الدعم السريع.

 

وفي سياق السودان ذاته، سعت تُركيا في وقت سابق لتعزيز وجودها في البلاد، خاصة في جزيرة سواكن التي تعتبر من النقاط الاستراتيجية نظرًا لأهميتها التاريخية خلال العهد العثماني. ففي ديسمبر 2017، زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، السودان، ووقع 12 اتفاقية من بينها بروتوكول لتطوير جزيرة سواكن، مما أثار حساسية قوى إقليمية مثل مصر والسعودية وأيضًا الإمارات، خصوصًا مع التكهنات حول إمكانية تحويل الجزيرة إلى قاعدة عسكرية تركية، مما قد يغير بشكل كبير ديناميكيات القوة في البحر الأحمر.

 

فالمُلاحظ في سياق ما سبق، أن الجيو-اقتصاد، الذي يُعرف بتوظيف الوفرة المالية لتحقيق أجندات سياسية، يتجلى بوضوح في تعاملات كل من الإمارات وتركيا في القرن الأفريقي، حيث تُرافق استثماراتهم اشتراط سياسات خارجية للدول المستهدفة تصب في مصالحهما الإستراتيجية، وفي بالمقابل، تُحجب الاستثمارات والمنح عن تلك الدول التي تُبدي تمردًا على أجنداتهما. تظهر هذه الاستراتيجية بشكل واضح في سياسات الإمارات، خصوصًا خلال الأزمة الخليجية لعام 2017 التي شهدت محاولات لعزل دولة قطر عن دول القرن الأفريقي. بل مؤخرًا، يمكن ملاحظة توجهات الاستثمار الإماراتي، حيث تبدي تعاونًا مع الدول أو المناطق التي تُشاطرها الرؤى السياسية، مع إبعاد الدعم عن الذين يعارضون سياستها أو يتبنون أجندات مخالفة. مثالًا على ذلك، الاتفاقية الأخيرة التي أُبرمت مع حاكم دارفور، والتي تمت دون التشاور مع الحكومة المركزية في الخرطوم. وهى استراتيجية إماراتية متكررة حيث تتجه عند الخلاف مع الحكومة المركزية إلى الأقاليم المتمردة أو التي تسعى للاستقلال، سواء كان جزئيًا أو كليًا، كما هو الحال في أرض الصومال أو دارفور.


وهكذا يبرز التنافس بين الإمارات وتركيا في معترك صراعهما الجيو-اقتصادي على القارة ، كنموذج للتنافس الشامل، الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ليشمل عدة ساحات، الاقتصاد، الأيديولوجيا، والتنافس العسكري غير المباشر كدعم الإمارات لخليفة حفتر في تقدمه نحو طرابلس، مقابل الدعم الذي قدمته تركيا لحكومة فايز السراج، المعركة التي حسمت لصالح الجانب الذي تدعمه تركيا.


ويُعاد تمثيل هذه الديناميكية في السودان، حيث تُظهر الأدلة دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، بينما يتجه الجيش السوداني للتعاون مع الحكومة التركية في اقتناء الأسلحة. وقد شهدنا ديناميكية مشابهة مطلع العام الجاري في الصراع بين حكومة الصومال في مقديشو و حكومة أرض الصومال في هرجيسا، حيث تتجه الإمارات لدعم هرجيسا التي تطمح للاستقلال الأحادي، في حين تدعم تركيا مقديشو التي استقبلت في شهر أبريل الأسطول التركي في موانئها، بغية حماية تلك الموانئ، بما في ذلك ميناء بربرة الاستراتيجي الذي تُطوره موانئ دبي العالمية. جميع ما سبق، يدل على هيمنة متزايدة للدولتين في نهج يبرز التنافس الإيديولوجي والاستراتيجي بين القوتين في القرن الأفريقي.


ختامًا، ما يلفت النظر في سياسة الإمارات في أفريقيا، وبالأخص في القرن الأفريقي، هو تسرعها في بناء نفوذ بطرق قد تُعد عنيفة، معتمدة أحيانًا على دعم الكيانات غير الشرعية/الرسمية لتعزيز نفوذها، مثل دعمها لحفتر في ليبيا وللدعم السريع في السودان، و في الصومال بدعمها لحكومة أرض الصومال. وقد يكون النهج الإماراتي المتسرع في بناء الهيمنة في سياستها الخارجية سببًا في الامتعاض الذي تُظهره الشعوب تجاه سياساتها. ففي السودان مثلاً، خرجت مظاهرات شعبية تندد بدعم الإمارات لميليشيا الدعم السريع، وتتعالى الأصوات الحكومية السودانية الراهنة مستنكرة هذا التدخل. وبطريقة مشابهة، عبّرت القيادة الجزائرية عن استيائها من التدخلات الإماراتية في الشؤون الداخلية الجزائرية والأفريقية.


في المقابل، تُظهر تركيا مرونة في بناء نفوذها بالتعاون مع الحكومات التي تحظى بالدعم الدولي، في ليبيا والصومال، ويظهر هذا في السودان حالياً. هذا التفاوت بين نهج الدولتين قد يعود إلى الخبرة التركية الممتدة عبر ستة قرون من إدارة الإمبراطورية العثمانية، حيث تعلمت كيفية بناء علاقات ثابتة بصبر ومنهجية بناءة، بينما تظهر الإمارات كقوة ناشئة تفتقر إلى الخبرة في التعامل مع التعقيدات السياسية في أفريقيا، ما يدفعها أحيانًا لارتكاب أخطاء أولية في السياسة.

 

شارك

مقالات ذات صلة