آراء

الولاء والبراء كما جاء من السماء

مايو 8, 2025

الولاء والبراء كما جاء من السماء

لم يكن مفهوم “الولاء والبراء” يومًا مجرد بند في كتب العقيدة، ولا نظرية لغوية تبحث عن تطبيق في ساحات الجدل، بل كان ولا يزال أحد أعمدة بناء الأمة، ومفصلاً محوريًا في تشكل الهوية الإيمانية والروحية والاجتماعية للمسلم. إنه نظام حياة متكامل يربط المسلم بأخيه المسلم بعروة وثقى تتجاوز الفواصل الجغرافية والسياسية، لتصنع منهما جسدًا واحدًا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.


لقد أُسيء إلى هذا المفهوم حين تم اختزاله في دائرة من الضوابط التجريدية، تُتداول في إطار الصراعات العقائدية دون ربطها بالمقاصد الشرعية العظمى التي جاء الإسلام لتقريرها، كالرحمة، والنصرة، والتكافل، وحماية الأمة. فنُزعت عنه روحه، وسُلبت فاعليته في صناعة الشعور الجماعي، حتى بات في أذهان كثيرين عنوانًا للفرقة، لا رابطة للوحدة.

 

إنه حين يصطف طفل في أقصى المغرب ليهتف لفلسطين، أو تقف أم في الكويت ترفع يديها بالدعاء للمجاهدين في غزة، فإن الولاء هنا لا يُشرح في كتب، بل يُعاش في الوجدان، ويترجم في السلوك، ويُترسخ في المواقف. هو الامتداد الحي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا”، وهو تفسير عملي لقول الله تعالى: “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا”.

 

إن الأمة التي لا تعيش آلامها كجسد واحد، ولا تفرح بنصر جزء منها وكأنه نصر لها بأكملها هي أمة لم تتشرب هذا المفهوم كما ينبغي. الولاء هنا ليس إعلان انتماء نظري، بل انحياز وجودي، والتزام عملي، وصيغة حياة تُبنى على النصرة، والتأييد، والاحتواء.

 

تراجع مفهوم الولاء والبراء في حياتنا المعاصرة نتيجة حتمية لعوامل عدة: أولها الانفصال المعرفي عن المفاهيم الشاملة للقرآن، حيث سُجن المفهوم في خانة التنظير دون تنزيله على واقع الأمة، وثانيها ذوبان الوعي الجمعي في أطر القُطريات الضيقة التي زرعها الاستعمار، فغابت فكرة الأمة الجامعة، وحلّت محلها “الهوية المقطعة”. أما ثالثها فهو تخاذل من نطق بالشهادتين، ووقف في خانة التخذيل عن قضايا الأمة، يُلبس مواقفه ثوب الحكمة، ويخفي في جوفه أثقال المواربة والبرود.

 

إن غرس الولاء والبراء لا يبدأ من المنابر، بل من المحاضن. حين نحكي لأطفالنا عن المسجد الأقصى لا كصورة، بل كجزء من كرامتهم، وحين تُربى النفوس على الانحياز للمظلوم لا على “الحياد البارد”، وحين تغدو فلسطين جزءًا من مناهجنا التربوية قبل أن تكون جزءًا من نشرات الأخبار. حينها فقط نبني الولاء الحقيقي.

 

نغرسه حين نربط القلوب لا فقط بالعقائد، بل بالهمّ، بالبكاء مع المنكوب، والفرح مع المنتصر، والتحرك مع المظلوم. في الأسواق، في السياسة، في الإعلام، في التعليم، في المواقف اليومية. الولاء يتجلى حين نقاطع، وحين نناصر، وحين نعيد تعريف “العدو” في عقولنا.

 

إن الولاء والبراء هو البنية العميقة لكل مشروع نهضة. لا يُبنى مجتمع النهضة إلا على روابط وجدانية تصنع الصف الواحد. إنه يزرع الانتماء الفعلي للأمة، ويحصّن النفوس من الذوبان في المشاريع الأجنبية، ويمنح القضايا الكبرى جذورها الممتدة في قلب كل فرد. إنه مفهوم يُنجب القادة، ويُؤسس للصف، ويصنع من كل مسلم مشروع مقاوم، ومشروع مصلح.

 

آن لهذا المفهوم أن يُبعث من بين الركام، لا ليكون سيفًا بيد المتشددين، بل لبنةً في جدار الأمة. آن له أن يعود ليتجاوز التجزئة التي ألحقناها به، ويستعيد مكانته في خطاب الأمة: خطاب الرحمة والعدل، والنصرة والكرامة.

 

الولاء والبراء ليسا شعارات، ولا سطورًا في كتاب، بل انتماء ينبض، ونصرة تُمارس، وخيار وجودي لا حياد فيه. فإما أن نكون مع أمتنا حيث كانت، أو أن نُقصي أنفسنا عنها، فنخسر موقعنا في التاريخ، وموضعنا في قلوب الأحرار.

شارك

مقالات ذات صلة