سياسة

المشهد السوري: واقع سياسي هش وصراع أمني متجدد

مايو 8, 2025

المشهد السوري: واقع سياسي هش وصراع أمني متجدد

لا تزال سوريا مسرحًا لصراعات داخلية وأمنية متجددة، إلى جانب تصعيد إقليمي يستغل التوترات الداخلية، بينما تحاول دمشق احتواء الأزمات عبر اتفاقات محلية. ومع ذلك، تبقى الحلول الجذرية غائبة في ظل استمرار التدخلات الخارجية.



الوضع السياسي: رفع العقوبات يصطدم بشروط أمريكية


تواجه سوريا تحديات جسيمة في علاقتها مع الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية، التي تتسم بالتشكيك في شرعية القيادة السورية الجديدة، وتفضّل سياسة العزلة الدبلوماسية واستخدام العقوبات كأداة للضغط والابتزاز، مدفوعةً بالضغوط الإسرائيلية الرامية لإبقاء سوريا ضعيفة ومقسّمة.



ورغم الانقسام الداخلي الأمريكي بين تيارٍ مؤيد لحوار مشروط وآخر يرى في القيادة السورية امتدادًا لـ “جهاديين إرهابيين”، تظل واشنطن بلا سياسة واضحة تجاه الملف السوري، باستثناء ربط أي تخفيف أو تعليق للعقوبات بشروط صعبة تمسّ السيادة السورية، كالإبقاء على سوريا ساحة لمحاربة الإرهاب، والسماح بعمليات التحالف الدولي، بالإضافة لترتيبات أمنية تضمن سلامة الدول المجاورة وعلى رأسها “إسرائيل”، رغم احتلالها لأجزاء واسعة من الأراضي السورية.



ما يضع دمشق أمام تحديات جسيمة في الموازنة بين الشرعية الداخلية والمطالب الخارجية، مع بروز إمكانية انضمام سوريا إلى “الاتفاقات الإبراهيمية” كخيار مطروح لضمان وحدة الأراضي. هذا يُظهر تحوُّل الملف السوري إلى ورقة تفاوضية في صراع إقليمي أوسع.



حتى الآن، تبقى الديناميكية التفاوضية هشة؛ فرفع العقوبات الكلي مرهون بتنازلات سورية جوهرية، بينما يمنح التعليق الجزئي للعقوبات واشنطن نفوذًا مستمرًا دون تكلفة كبيرة. وفي المقابل، يعيق الجمودُ المفاوضاتِ تعافيَ الاقتصاد السوري. هكذا، تتحول سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة، حيث تُدار مفاوضاتها عبر مصالح القوى الكبرى والفاعلين الإقليميين، مما يفرض على النظام الجديد مناورة دقيقة للحفاظ على شرعيته، في مشهد يعكس تناقضات المرحلة الانتقالية بين بناء الدولة وإملاءات النظام الدولي.



من جهة أخرى، يكشف القرار البريطاني برفع الحظر عن أصول عدد من المؤسسات السورية الحكومية والأمنية عن رغبة أوروبية في رسم سياسة أكثر استقلالية عن سياسة واشنطن تجاه دمشق، مستفيدةً من الفراغ النسبي الناتج عن التراجع الأمريكي في المنطقة. ويعكس هذا القرار إدراكًا أوروبيًا للتغيرات الجيوسياسية العميقة التي تشهدها سوريا والمنطقة ككل، مع سعي واضح للحفاظ على نفوذ في مسار إعادة الإعمار والتسوية السياسية.



لكن، وعلى الرغم من محاولات دمشق كسب دعم أوروبي وإقليمي، تبقى العقوبات الأمريكية عائقًا رئيسيًا، في وقت تُظهر فيه إدارة ترامب انكفاءً عن الاهتمام بتداعيات الأزمة السورية على المنطقة.



الوضع الاقتصادي: خطوات سورية لإعادة بناء الاقتصاد وسط تحديات العقوبات


تتبنّى الحكومة السورية استراتيجية إصلاحية طموحة تهدف إلى إعادة بناء منظومتها المالية، من خلال التعاون التقني مع المؤسسات الدولية، حيث بدأت المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان، تُبدي اهتمامًا متزايدًا بسوريا بعد سنوات من التهميش.



وقد تجلى هذا التحول في تعيين صندوق النقد الدولي للخبير الاقتصادي المخضرم “رون فان رودن” – صاحب الخبرة الواسعة في ملفات الدول الخارجة من النزاعات مثل العراق وأوكرانيا – رئيسًا لبعثته إلى دمشق، في خطوة رمزية وعملية تعكس نية المؤسسة الدولية لمساعدة سوريا على التعافي الاقتصادي، وإن كان ذلك في إطار محدود بسبب استمرار العقوبات الغربية.



وبحسب تصريحات وزير المالية، محمد برنية، فإن بعثات دولية ستصل قريبًا إلى دمشق لتنفيذ برنامج إصلاحي شمولي. وأوضح الوزير أن الحكومة لا تسعى للحصول على تمويل خارجي، بل تركّز على الاستفادة من الخبرات الفنية في تطوير البنية التحتية المالية والمصرفية.



كما يُبعث عقد مرفأ اللاذقية الجديد (2025)، عبر شراكة مباشرة مع شركة CMA CGM الفرنسية، لاستثمار يبلغ 230 مليون يورو وتحويل الميناء إلى مركز لوجستي إقليمي، برسالة تفاؤل، باعتباره أول استثمار دولي كبير بعد الحرب.



هذه الخطوات الاقتصادية تمثّل محاولة جادة لكسر الحصار المفروض على سوريا عبر بوابة الإصلاح المؤسسي، بدلاً من الاعتماد على المساعدات المباشرة. ومع ذلك، يبقى أي إصلاح مالي واقتصادي حقيقي رهينة للاستقرار السياسي ومعالجة التحديات الهيكلية، مثل البنية التحتية المدمّرة، واستمرار العقوبات التي تعوق عملية إعادة الإعمار والتعاون مع مؤسسات التمويل الدولية.



الواقع الأمني: غياب العدالة الانتقالية يفاقم الهشاشة الأمنية ويهدد الاستقرار


تثير سياسة الإفراج عن مسؤولي نظام الأسد السابق دون محاكمات جدلاً واسعًا في الداخل السوري، حيث يُنظر إليها كإحياء لثقافة الإفلات من العقاب التي ميزت عقدًا من الصراع. ففي مناطق مثل الساحل السوري ودمشق، يتم الإفراج عن عناصر أمنية متهمة بانتهاكات حقوقية، ما يثير استياءً شعبيًا، خاصة بين ضحايا النظام السابق وعائلات المختفين قسريًا، الذين يرون في هذه الخطوات تكريسًا لانعدام المساءلة.



من جانبها، تدافع بعض الأصوات في الحكومة عن سياسة الإفراج المشروط باعتبارها آلية ضرورية تهدف إلى تشجيع تسليم الأسلحة ودمج فلول النظام السابق في المجتمع، كما تُوظّف هذه السياسة في الترويج لصورة الدولة خارجياً لكسب دعم دولي لجهود إعادة الإعمار.



لكن من الواضح أن هذه الرؤية تفتح الباب أيضًا أمام انتشار الثأر الفردي، كما حدث مؤخرًا في حمص، حيث قُتل عشرات من العناصر الأمنية السابقة في هجمات انتقامية، ما يُعمّق انعدام الثقة بين المواطن والدولة، ويُعيد إنتاج العنف بصور جديدة.



وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 20 مدنيًا على الأقل في حمص بين 23 و28 أبريل، في أعمال عنف طالت حتى مَن خضعوا لاتفاقات تسوية سابقة. تركزت معظم العمليات في أحياء ذات أغلبية علوية، مما يُغذّي التوترات الطائفية ويفتح الباب لانتقام متبادل.



كما شهد شهر نيسان/أبريل 2025 مقتل 174 مدنيًا، بينهم 23 طفلًا و13 سيدة، بالإضافة إلى وفاة 5 أشخاص تحت التعذيب. وكانت النسبة الأكبر من الضحايا (أكثر من 80%) مجهولة الفاعل، وهو ما يعكس هشاشة الوضع الأمني واستمرار الانفلات رغم سقوط النظام السابق.



يشير تقرير “الشبكة السورية” إلى واقع أمني متشظٍ في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، حيث لا تزال عمليات العنف ضد المدنيين مستمرة، في ظل توزع المسؤوليات بين أطراف متعددة (جهات مجهولة، الحكومة الانتقالية، فلول النظام السابق، قسد، إسرائيل، حزب الله). ويشير تركّز الضحايا في محافظات محددة، مثل حمص، إلى وجود فراغ أمني كبير في بعض المناطق.



قسد: مؤتمر وحدة الصف الكردي يثير مخاوف دمشق


أثار مؤتمر “وحدة الموقف والصف الكردي”، الذي انعقد مؤخرًا في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة، قلق السلطات السورية في دمشق، إذ أظهر رغبة القوى الكردية في اعتماد نظام لا مركزي، ومطالبتها المجتمع الدولي بالمشاركة في صياغة الدستور، ما يفتح الباب لتدخلات خارجية إقليمية ودولية.



وشهدت منطقة سد “تشرين” بريف حلب عودة التوترات العسكرية، بعد يوم من البيان الرئاسي السوري الذي انتقد تصريحات قادة الأحزاب الكردية الداعية للفيدرالية، معتبرًا أنها تتناقض مع مضمون الاتفاق الموقع مع مظلوم عبدي.



تكشف هذه التطورات عن هشاشة الهدوء النسبي الذي ساد المنطقة مؤخرًا، وعن تعقيدات المشهد السوري الذي لا يزال يعاني من تداخل المصالح وتعارض الأجندات. ورغم غياب رد تركي رسمي، يبقى خيار التدخل العسكري مطروحًا، لا سيما إذا أخلّت “قسد” بالتزاماتها، مما قد يؤدي إلى تجدّد التوتر في المنطقة.



تنظيم الدولة: المعركة لم تنتهِ بعد


لا يزال تنظيم الدولة (داعش) يشكّل تهديدًا أمنيًا مستمرًا في سوريا، مستفيدًا من الأوضاع الأمنية الهشة والفراغ الذي خلفه الانهيار السياسي. ويُعيد التنظيم رسم استراتيجياته عبر مجموعات متنقلة تنشط في البادية السورية، مستغلاً التضاريس الوعرة وصعوبة السيطرة على المناطق النائية.



تشير البيانات المسجلة لعام 2024 إلى تصاعد ملحوظ في هجمات التنظيم، بواقع 294 هجومًا في سوريا، مقارنة بـ 121 هجومًا في 2023، مما يعكس نموًا في قدراته التنظيمية والتكتيكية.



من المتوقع أن يستغل التنظيم حالة اليأس من تأخر العدالة الانتقالية، معتمدًا على خطاب تحريضي يروّج لفكرة كونه “المنتقم” للضحايا. ففي أبريل 2025، أصدر التنظيم بيانًا مصورًا هدّد فيه رئيس الحكومة الانتقالية أحمد الشرع، محذرًا إياه من الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، كما شن حملات تحريضية عبر مجلة “النبأ”، متهمًا الإدارة الجديدة بالخيانة والتنازل عن مبادئ “تحكيم الشريعة”.



السويداء: استثمار إسرائيلي مُمنهج في ملف الأقليات


شهدت مناطق جرمانا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق، إضافة إلى السويداء جنوب سوريا، تصعيدًا أمنيًا مفاجئًا كشف هشاشة الوضع الداخلي السوري المتراكم بفعل سياسات التفرقة التي كرّسها نظام البعث. واستثمرت قوى خارجية، وعلى رأسها إسرائيل، هذه الفوضى لتعزيز نفوذها على حساب استقرار البلاد.



وتفاقمت التوترات عبر خطاب طائفي متبادل على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تبادل الطرفان الاتهامات بالخيانة والتكفير، ما ساهم في تأجيج الصراع.



استغلت إسرائيل هذه الأوضاع لتنفيذ غارات جوية بطائرات مسيّرة استهدفت محيط القصر الرئاسي بدمشق، في رسالة تحذيرية للحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، مفادها أنها لن تتهاون في حماية الطائفة الدرزية، ضمن استراتيجية تهدف إلى نزع سلاح الجنوب السوري وتحويله إلى منطقة عازلة خاضعة لسيطرتها الأمنية والعسكرية، محاكيةً نهجها في جنوب لبنان وقطاع غزة.



التصعيد الإسرائيلي–التركي: اختبار للحدود واستراتيجيات للمواجهة


تشهد سوريا تصعيدًا إسرائيليًا ممنهجًا يهدف لاختبار حدود النفوذ التركي، عبر غارات على جنوب سوريا ودعم مجموعات درزية محلية، في محاولة لإضعاف حكومة دمشق الحليفة لأنقرة.


في المقابل، تؤكد تركيا تمسّكها بوحدة الأراضي السورية، وتحذر من الرد “بالمثل” على أي اعتداء، حتى وإن كان مدعومًا أمريكيًا. تسعى أنقرة إلى الحفاظ على توازنها بين تحالفاتها الدولية ومصالحها الميدانية، عبر تعزيز التعاون الأمني غير المباشر مع دمشق، دون الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل أو واشنطن.



في الوقت الراهن، تركز تركيا على ترسيخ نفوذها الناعم عبر اتفاقيات أمنية واقتصادية مع الحكومة السورية، بينما تواصل إسرائيل نهجها العدواني في ظل غياب تفاهمات أمنية إقليمية واضحة.

شارك

مقالات ذات صلة