أدب
نستكمل في هذا المقال الحديث عن كتاب “ظِلُّ الله” من تأليف المؤرخ آلان ميخائيل، ونبدأ بمرحلة مهمة ركز عليها الكاتب، وهي حروب الاسترداد وطرد المسلمين واليهود من الأندلس، فقد كان لثقافة الحروب الصليبية المسيحية من الهيمنة في أوروبا، ما جعل الحرب مع الإسلام خطرًا معلومًا وحاضرًا في حياة الناس، حتى في ذلك الحي الصغير من مدينة جنوة، الذي قضى فيه كولومبوس الشطر الأكبر من العقدين الأولين من عمره، برفقة والديه وأشقائه الأربعة.
يضع ميخائيل قصة حياة كولومبوس وجيله من المستكشفين في سياق قصص الحملات الصليبية، فأولئك البحارة عرَّفوا غالب رحلاتهم الاستكشافية تعريفًا دينيًّا صريحًا بوصفها إسهامًا حاسمًا في الحرب الحضارية العالمية بين عالم المسيحية والإسلام. وشأنه شأن جميع الأوروبيين آنذاك، نشأ كولومبوس وشبَّ في ظل طغيان نزعة صليبية لا تكاد تفارق الحياة اليومية للناس.
وفي يوليو/تموز من عام 1491 على أبواب غرناطة، أخذت الملكة إيزابيلا تستعدّ في معسكرها الملكي المهيب لما كانت ترجو أن تكون المعركة الأخيرة لهزيمة ملك غرناطة أبي عبد الله محمد الثاني عشر، وكان كولومبوس يعسكر مع جيش إيزابيلا وفرناندو خارج أسوار غرناطة، يتحيَّن الفرصة المناسبة كغيره من الجنود. وبعد أن فشل في إقناع كثير من الملوك في مختلِف أنحاء أوروبا بتمويل رحلته الاستكشافية، خاب رجاؤه، ونال منه اليأس والفقر، وصار مجرد جندي مرتزق. لكن انتصر الإسبان بعد الحصار وانتهى بذلك أكثر من سبعة قرون من حكم المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية، ودخل الإسبان منتصرين ومعهم كولومبوس إلى مدينة الرمان، وصار أهم معالم حُكم الموريين في الأندلس كلها مِلْكًا للكاثوليك: قصر وقلعة لا مثيل لهما ظَلّا شاهدَين على قرون من حُكم المسلمين، ومِن أهمّ ما يقدمه الكتاب الربط بين سياق الكشوفات الجغرافية والخوف من هيمنة العثمانيين على العالم، أي الربط بين الإسلام وكولومبوس.
إسطنبول جنة اليهود
كان الانتصار التاريخي على المسلمين في غرناطة نقطة تحوُّل فارقة مهَّدَت الطريق لاستئصال شأفة اليهودية والإسلام في إسبانيا، وهي أحد التحولات المهمة التي يرصدها آلن ميخائيل في كتابه عن تلك الفترة.
شهد عام 1492، الذي «اكتشف» فيه كولومبوس أمريكا وأتمَّت فيه إسبانيا حروب الاسترداد، أيضًا حادثة جيوسياسية كبرى، وهي طرد اليهود من إسبانيا، وانتقل اليهود إلى الدولة العثمانية ونقلوا خبراتهم في تقنيات الأسلحة والمدافع، وجلب اليهود معهم معارف طبِّية جديدة، وكان ثَمَّ عائلة يهودية لها شأن في هذا الفن، وهي عائلة اللاجئ الإسباني يوسف هامون (Joseph Hamon) الذي أصبح كبير أطباء القصر في عهد بايزيد وسليم.
يوضح آلن ميخائيل أن إسطنبول قد أصبحت من أفضل بلاد الدنيا عند اليهود، إذ لم يسبق لهم أن نعموا في أي بلد من البلاد التي عاشوا فيها بما نعموا به في إسطنبول من الحرية والرخاء، بالنظر إلى تعصُّب الإسبان وخِسَّة الملك جواو الثاني البرتغالي، والسياسات المعادية لليهود في معظم دول أوروبا. وجد اليهود في دول المسلمين الأمن والأمان أكثر من أي دولة مسيحية أخرى، ولذلك كانت السلطنة العثمانية «جنة اليهود»، حيث صار بوسعهم العيش والاتجار بحرِّية في ظلّ حُكم ذاتيّ نوعًا ما، ومن دون قوانين تقيّد حرّيتهم في الملبس أو خوف من المذابح الاعتيادية التي كانت تقع لهم في أوروبا.
يخلص آلن ميخائيل إلى أنه بينما اتجهت أوروبا إلى طرد مسلميها ويهودها، واستعباد الأفارقة وإبادة السكان الأصليين في الأمريكتين، استقبل العثمانيون اليهود (والمسلمين) من شتى أنحاء العالم المتوسطي، وأدمجوهم في إمبراطوريتهم التي كانت غالبية سكانها لم تَزَل مسيحية، وهو أمرٌ مِن الأهمية بمكان.
السلطان سليم الميكافيلي
ومِن المفارقات التاريخية أن نيقولو مكيافيلي، الذي كان يُكِنُّ الإعجاب للسلطنة العثمانية ويَهابُها، أتمَّ أطروحته الشهيرة في الفلسفة السياسية المعنونة بـ«الأمير» في عام 1513، وهو العام نفسه الذي هزم فيه سليم إخوته غير الأشقاء ليؤمِّن السلطنة التي استولى على حكمها في عام 1512. لقد كان سليم نموذجًا مثاليًّا للسياسي المكيافيلي.
يوضح آلن ميخائيل أن مكيافيلي كان يُجِلُّ سليم أكثر من السلطانَين العثمانيَّين الآخرَين اللذين عاصرهما، وهما محمد الفاتح وبايزيد. فلم يكُن لسليم أي حظوة أو ميزة في سعيه إلى السُّلطة، سواء من حيث ترتيبه بين إخوته أو من حيث موقع ولايته، ولكنه دبَّر استراتيجية نافذة وقاتَل بلا هوادة لينتصر في النهاية على كل الصعاب. والآن، وقد أصبح السلطانَ، صار بين يديه أخيرًا كل ما يحتاج إليه ليسحق أحد أخطر أعدائه الذين واجههم طيلة حياته، إنه عدوّ ظَلَّ يؤرقه على مدار عقد منذ ولايته على طرابزون، أي: الدولة الصفوية.
هزيمة الدولة الصفوية
في أبريل/نيسان من عام 1514 خرج سليم من إسطنبول على رأس جيش في 140 ألف رجل بعد أن فرض حصارًا اقتصاديًّا على الصفويين، وهمّش المماليك بشكل أو بآخر. يوضح كتاب “ظِلُّ الله” إحدى أهمّ حملات سليم على الصفويين، وفي هذه الفصول يقدم ميخائيل شرحًا لطبيعة الصفويين والصراع بينهم وبين العثمانيين وخطّ سير المعارك.
ورغم المعاناة التي كابدها رجال سليم جرَّاء حرارة الشمس الحارقة في أغسطس/آب، فقد تمكَّن الرجال من قطع التضاريس الصخرية في أثناء صعودهم الحثيث من أرضروم إلى جالديران التي جرت فيها المعركة، حيث هزم سليم العثماني إسماعيل الصفوي واحتلَّ العاصمة تبريز، وهذا أذن بخراب الدولة الصفوية، وهكذا تقدَّم سليم في عاصمة الصفويين. ومن الأمارات الدالة التي يذكرها الكاتب على سيادة سليم بدلًا من إسماعيل الصفوي أنَّ كلَّ مساجد تبريز دعت لسليم في خُطَب الجمعة من ذلك الأسبوع.
السيطرة على قلب الشام
يوضح آلن ميخائيل في كتابه “ظِلُّ الله” أن القرار الذي اتخذه سليم بغزو دولة المماليك الضخمة وتدميرها والاستيلاء على كل أراضيها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والبحر الأحمر سيغدو أكبر حملة عسكرية يشنّها أي سلطان عثماني على هذه المناطق على الإطلاق، لأن الحرب ضد دولة المماليك السُّنية الشقيقة تعني أنَّ عليه تحمُّل أهوال ومشاق ينوء بحملها أشد الرجال.
إحدى المكايد التي استخدمها سليم هي تجنيد خاير بك والي حلب، الذي سيُعرف عند العرب لاحقًا بـ”خاين بك” لوقوفه مع العثمانيين، فقد راسل خاير بلاط بايزيد سرًّا، ونقل إليه معلومات نافعة تتعلق بشؤون المماليك. ولما تولى سليم العرش كانت هذه العلاقة لا تزال مستمرة، وقد أغدق السلطانان العثمانيان على خاير سيلًا من الهدايا والمال مقابل تجسُّسه.
يصل سليم إلى دمشق، وبعد السيطرة على المدينة أمر بالبحث عن قبر ابن عربي وترميم ضريحه. واستطراد آلن ميخائيل في رمزية هذا الفعل شعرتُ أنّ فيها مبالغةً في الكتاب.
السلطان سليم في القدس
دخل السلطان سليم القدس في منتصف ديسمبر/كانون الأول من عام 1516، وكما حدث في دمشق، لم يجد مقاومة تُذكَر من أهل المدينة، إذ كانوا يتوقعون وصوله. وكان أول ما فعله أن أعطى المسيحيين واليهود في القدس الأمان وتعهَّد بحمايتهم. ويتخيل الكاتب آلن ميخائيل لو كان كولومبوس نجح في غزو القدس، لما استطعنا أن نتصور بحال من الأحوال أن يُقدِم على ما فعله سليم، لأن مصلحته كانت تكمُن في القضاء على الإسلام.
كما التقى سليم كبار الحاخامات ليؤكد لهم أن الحكم العثماني لن يمسّ شعائرهم أو ممتلكاتهم أو يتدخل في شؤون جماعاتهم. زِد على ذلك أنه أمر بزيادة رواتب الرهبان الفرنسيسكان في كنيسة القيامة، وتخفيض الرسوم على الحُجَّاج المسيحيين الذين يزورون المدينة. قضى سليم استراحة قصيرة في القدس، وفعل خلالها مثلما فعل قانصوه الغوري قبل بضعة أشهُر، فزار معالمها الدينية مثل كنيسة القيامة، وجبل الزيتون، والمسجد الأقصى.
الطريق إلى القاهرة
يستمر الكاتب آلن ميخائيل في رسم أهمّ فتوحات السلطان سليم، وهي السيطرة على قلب الشام، إذ انطلق سليم ورجاله عبر الصحراء بحشد يضمّ الجِمَال والخيل والسلاح واثنَي عشر مدفعًا كبيرًا.
ونزل مطر الشتاء على الرمال فتماسكت، فقطع الجيش كله مسافة مئتَي ميل (نحو 320 كيلومترًا) في صحراء سيناء حتى وصل إلى ضواحي القاهرة في خمسة أيام فقط، في منتصف يناير/كانون الثاني عام 1517.
كان السلطان المملوكي طومان باي في عالمه البعيد وقصره الرغيد في القاهرة العامرة بالثقافة يخشى خطرًا يعلم أنه آتِيهِ لا محالة، وكان طومان باي قد سمع أن العثمانيين وَطِئُوا جثة قانصوه الغوري بخيولهم، ونظر السلطان الجديد بعينيه اللوزيتين الواسعتين إلى دولته فوجدها تتداعى.
ويتحرك العثمانيون إلى العاصمة القاهرة من أجل معركة فاصلة حاسمة، فإمّا أن يستولي العثمانيون على القاهرة، ومن بعدها شمال إفريقيا والحجاز، وعليه تنتهي دولة المماليك إلى الأبد، وإمّا أن يصدّهم طومان باي وجنوده ويستعيد المماليك يدهم العليا.
أمر طومان باي ببناء جدار حجريّ يُمكّن قوات المماليك من الاحتماء به وضرب الجيش العثماني حين يتقدم نحوهم، وحفر خندقًا أمام هذا الجدار ثم وُضِعَت فيه الرماح منتصبةً حتى تنغرز في خيول العثمانيين وجِمَالهم.
وقد حمل طومان باي الحجارة الثقيلة بنفسه ليساعد في بناء الجدار، فارتبك رجاله لأنهم لم يروا سلطانًا من قبلُ يقوم بعمل الجنود، فلم يكُن ينبغي للسلطان أن يحمل حتى طعامه، فكيف بحجارة ثقيلة يحملها بنفسه لتحصين الجدار؟!
ولو كان في نفوس جنوده شك في أن الأيام الآتية أيام عسيرة، فلا ريب أن هذه الشكوك قد تأكدت بعد هذا الموقف، وانتهى الأمر بهزيمة المماليك وانتهاء دولتهم وسيطرة العثمانيين على أراضٍ من إسطنبول إلى القاهرة.
السلطان سليم وتأريخ آلن ميخائيل
يقدم المؤرخ آلن ميخائيل سردية تاريخية عن حياة السلطان سليم وتشكُّل العالم في زمنه، شعرتُ أنها مكتوبة بعين الرضا والتعاطف مع سلوكيات السلطان وتفهُّم للظروف والسياق في عصره، على الرغم من أنه يذكر ما دوّنه المؤرخ الإيطالي جوفيو في خمسينيات القرن السادس عشر، فقال في سليم إنه “سفك دماء في سنوات حكمه الثماني أكثر مما فعل سليمان في ثلاثين سنة”.
ويصمت الكتاب عن تفسير حوادث تاريخية مهمة وإشكالية مثل موقف الدولة العثمانية من العرب، ومسألة نقل العمال والحرفيين المهرة إلى العاصمة في إسطنبول. ولا ينقد توسُّع سليم في قتال الشيعة، إذ أصبح يُعرف بالسفاح لديهم. وإذا كانت المروية التاريخية القومية المصرية تختصر قرون الحكم العثماني بأنها جهل وتخلُّف فلا يمكن التسليم في المقابل باعتبار هذه السنوات قمّة في الحضارة، بل الواجب بحثها لتقريب إيجابيات ومثالب هذه الحقبة، لكن تركيز المؤلّف على لحظة السلطان سليم جعله يغفل الآثار المترتبة على الحكم العثماني للبلاد العربية.
ينجح الكتاب في كتابة تاريخ عالمي متمحور حول الدولة العثمانية، لكن الدراسة المتأنية لأقاليم الدولة العثمانية قد تخفف النتائج التي وصل إليها، فالولاة العثمانيون مع سبعينيات القرن السادس عشر انزلقوا إلى بعض أخطاء المماليك، مثل الجمع بين الولاية والعمل بالتجارة رغم منع قوانين الدولة العثمانية هذا الأمر، كما توضح المؤرخة نيللي حنا في كتابها عن القرن السادس عشر، وهذا يعني عدم الاستغراق في لحظة الفتح فقط، بل دراسة نتائجها على البلاد العربية بالتفصيل وفهم نظام الحكم العثماني في تلك البلاد.
كتاب “ظِلُّ الله” يمثل أهمية كبيرة ستجعلك ترى السلطان سليم بعين مختلفة، خصوصًا عند مرورك على جسر السلطان سليم فوق مضيق البوسفور، أو في أثناء سيرك في شوارع المدينة التي تحمل اسمه، فتدرك أهمية تاريخ 1517 في تاريخ العالم الحديث والأجواء التاريخية التي تزامنت مع بداية القرن السادس عشر. إنها رؤية تربط بين الحروب الصليبية والإصلاح الديني في أوروبا وطرد المسلمين من الأندلس وتهجير اليهود، بالإضافة إلى اكتشاف الأمريكتين وازدهار تجارة العبيد من إفريقيا وشحنهم على سفن إلى هذه الأصقاع البعيدة، وهزيمة الصفويين وهيمنة العثمانيين على البحر المتوسط ووقف توغُّل البرتغاليين وانتهاء زمن المماليك، كل هذه الأحداث المهمة المتداخلة في رواية تاريخية تصلح مدخلًا للقرن السادس عشر، كل ذلك في تتابع مميز مشوّق يركز على التفاصيل حتى تظهر كرواية مميزة لا يَمَلُّها القارئ، خصوصًا أنّ المؤرخ إيان موريس مؤلِّف كتاب “لماذا يهيمن الغرب اليوم؟” يقول عن كتاب “ظِلُّ الله”: “إنّ أعظم الثناء الذي يمكن أن يناله كتابٌ في التاريخ أن يجعل قارئه ينظر إلى الأمور نظرة جديدة”، وفي هذا الأمر ينجح كتاب آلن ميخائيل.


