أدب

شُعاعُ شمس

مايو 6, 2025

شُعاعُ شمس

-رُبا سعدُالدين



للمرة الأولى، أُشاهد شُروق الشمس. أسمعُ كثيرًا عن جمال هذه الساعة وسحرها، ولكن لم يخطُر ببالي خوض هذه التجربة، التي قد يراها البعض عادية.



صعدتُ فجرَ اليوم إلى سطحِ منزلنا، إذ هو المكان الوحيد الذي يُمكنني من مُراقبة السماء بحرية. أدّيتُ صلاة الفجر على عجَل خوفًا أن يفوتني، لكنني كنتُ مُخطئة. فقد صعدتُ برفقة دفتري وقلمي ومعطفي، لتستقبلني السماء بظلامٍ دامس، والغيوم التي تكسيها أشبه بالضباب. حتى ضوء القمر لم يستطع التسلل بين هذه السحب. هل سأبقى في هذا السواد إلى أن تُشرق الشمس؟

كان المكان مهيبًا، ولولا أنني ذكّرت نفسي بالله لما كنتُ سأجرؤ على المكوث. الشمس ستشرق بعد قليل!



القمر نقطة بيضاء باهتة، يحاول جاهدًا أن يُرسل إلي شيئًا من نورِه، لكنه يفشل، يتلاشى بين الغيوم ولا يصل إليّ. السماء لونها أقرب إلى البنفسج المخلوط بالسواد، هل تصطبغ السماء بهذا اللون؟!



آه.. الضباب يتنحّى عن القمر شيئًا فشيئًا! بدأتُ أتبين ملامحه الدقيقة من بعيد، وها هو نوره المتواضع يشق طريقه نحو دفتري. كنتُ أرى الكلمات التي أكتبها بصعوبة بالغة.



الديك يصيح عن يميني، ريحٌ باردة تجتاح أطرافي، والهواء يلعب بالخصلات القصيرة الهاربة من معطفي. لا أستطيع تجاهل الأشياء الخفيفة التي تتحرك بفعل الهواء فتُصدر صوتًا أشبه بالفحيح. كانت جديرة بإخافتي، لكنني ألفتها فورًا.

ها هي العصافير بدأت تزقزق! لكن لا أثر لأي ضوء؟



تعبت عيوني من الكتابة في الظلام. السماء شديدة الاتساع، وهذا يُسرني كثيرًا، أهرب من ضيق صدري إلى رحابة صدرها.

انتظرتُ قليلًا بصمت، لعل الوقت يمر، لكن وساوس مخيفة بدأت تراودني بدلًا من ذلك. أرى غيمة تتوسط السماء، صغيرة ولكن واضحة. أما الباقي فكان ضبابًا متداخلًا يبعث الكآبة في نفسي، وهذا مؤسف. أحب الغيوم وأشكالها العشوائية، ولكن هذه الغيمة غير واضحة المعالم.



بدأ البرد ينخر عظامي أيضًا، هيّا أيتها الشمس!

ها هو لون السماء بدأ يميل إلى الزرقة، زُرقة باهتة، ولكن تُبشر بالخير. انقشعت تلك الغيمة الضبابية الكبيرة من حول القمر تمامًا! قَمَري الآن يتوسط السماء منيرًا بكبرياء، كأن السماء ملكًا له. تلاشى الظلام أخيرًا، حتى بدأت عيوني تتحسس الضوء بوضوح، ولكن لا أثر للشمس بعد.



يمكنني أن أستبين معالم الغيوم الآن. السماء ليست بصافية ولا مكتظة، فقط غيوم ريشية رقيقة هنا وهناك، عدا واحدة كبيرة سوداء تتوارى خلف مئذنة المسجد المقابل لنا. المسجد يحميني منها إذًا.

ماذا أفعل؟ البرد قد اشتد كثيرًا! أصابعي تجمدت تمامًا، وهذا القمر يأخذ مجده في سمائي كأنه لم يكن مختبئًا خلف الغيوم بخجل قبل دقائق معدودة!



القمر والغيوم، البرد والعطش! هل يريدون إغاظتي لأنزل إلى غرفتي الدافئة قبل أن أرى شمسي؟ لن أفعل!

قمتُ لأمشي قليلًا في هذا المكان الفسيح، ربما أحظى ببعض الدفء. لكن حالما وقفتُ والتفتُّ نصف التفاته، وجدتُ غيمةً مختلفةً وراء ظهري. غيمةٌ عظيمة، كبيرة وكثيفة! حتى أنني لم أكن قد لمحت نصفها أو ثلثها من قبل. ومن تحتها يكمن نور ساطع، كأنها تحجبه عني بحجمها الهائل.



لم تكتفِ بذلك، بل إن هناك شُعاعًا أحمر يتسلل من بين جنباتها، أحمر قاني بالفعل! غيومٌ رمادية، سوداء وبيضاء، رقيقة وكثيفة، قطعة واحدة أو متفرقة، كل هذه تصطف فوق بعضها البعض في مشهد عظيم!

من أين أتت كل هذه العظمة؟ بدأتُ أرجف بالفعل، لا أدري من البرد القارس أم مهابة المنظر! لكن أسناني بدأت تصطك، وشمسي لم تظهر بعد.



صوت القرآن يتهادى من بين المنازل إلى مسمعي، تُتلى آيات كريمة من جزء عمّ يتساءلون، الجزء الذي يُذكرني بطفولتي. ربما كانت كل هذه الغيوم موجودة منذ البداية، لكنني لم أكن قادرة على رؤيتها بسبب الظلام الذي خيّم على جفوني.

على كل حال، القمر أصبح ضئيلًا ومهمشًا مقارنة مع غيومي. بالكاد أراه، وانظروا إنه يختبئ خلف غيمة غليظة مجددًا.

انتظرتُ حوالي نصف ساعة، أمشي ذهابًا وإيابًا في هذا المكان الفسيح، فأتذكر سوريا مجددًا. أتذكرها عندما أكون سعيدة أو حزينة، منشغلة أو متفرغة. فكُنتُ أتغنى بهذه الأبيات مرة:

سلامٌ من صَبا برَدى أرقُّ

ودمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

ومعذِرَةٌ اليراعةِ والقوافي

جلالُ الرِّزءِ عن وصفٍ يدِقُّ



أو يُغني حارس الثورة في رأسي بصوته الجهوريّ الصارم: “صفّيت بدار، فيها الأبرار.. فيها الصحابة والمُختار” فأرتعد أمام هذه المكانة الرفيعة التي ينالها الشهداء، أستمع لهُ بوقار، والهدوء يعم المكان إلا من صوته. حتى الطيور حلّقت من فوقي بصمت وجلال!

ثم فجأة، استرجعتُ مقطعًا من شارة البداية لمسلسل “البؤساء” الذي كنتُ أبكي كلما سمعتها في صغري:
“حلُمتُ حُلمًا في زمان.. ما كان عندها مُستحيلا، بحُبٍ من دونِ أثمان.. وللمغفرةُ ألفُ وسيلة..”



وشخص آخر، شاب أردني مفعم بعروبته، يخرج ما يعتمل في صدره من قهر فيصرخ بها حتى ترى عروقه بارزة توشك أن تنفجر:
“بلاد الرعب أوطاني، هنا بلاد الشام، نزفنا دم واكلنا ضرب من قبل الحكام…”


ارتجفتُ حتى لم أعد أستطيع الكتابة.

مضت ساعة ونصف على انقشاع الظلام، ولم تَظهر شمسي بعد. لم أكن أعلم أن مشاهدة الشروق ستُكلّفني كل هذه الدموع، الحسَرات، والأحاسيس! الشمس تحتجب خلف تلك الغيمة الرمادية، حتى أنها عادت ضبابية باهتة!


شمسي تخلت عني في النهاية ولم تحاول أن تفعل شيئًا. أنا لا أرى أي شيء يدل على وجودها! صدّقيني يا شمسي، كنتُ سأرضى بشعاع أو اثنين من نورك، وبخلتِ بها عليَّ. لذا.. عليّ النزول إلى غرفتي الدافئة. يداي تجمدت منذ زمن ونفدت بطارية هاتفي، وأشعر بظمأ شديد!


لكن لحظة.. إنني أرى ضوءًا مشّعًا بين الغيوم! أهذا شعاع؟ إنه أصفر متوهج! لكن انتظروا.. أين اختفى القمر؟

شارك

مقالات ذات صلة