في العام الماضي، بينما كنت أودع عالمي “القديم” الحبيب وأنا متجهة للعالم “الجديد”-الولايات المتحدة، قابلت فتاة ذكية مفعمة بالحياة، تعيش بين العالمين القديم والجديد مثلي. تحدثنا عن مآسي العالم، على الحداثة وعن الذكاء الاصطناعي. عن دمار الكوكب.
تحدثنا عن ال system overload. عن صعوبة كون أخبار العالم باتت متاحة-بل تتدفق علينا لتغرقنا- كل دقيقة وكل ثانية عبر هواتفنا. فيضان في باكستان. مجازر متتالية في السودان. محاولة انقلاب في الإكوادور. اغتصاب أو قتل فتاة في مصر. وعن غزة.
تحدثنا عن صعوبة أن تكون إنسانا في هذا العالم. وأن تكون متوازنا. وماذا يعني أن تكون متوازنا وأهلك يقطعون أشلاء. وعن السؤال الذي نخاف أن نسأله. مالجدوى من المتابعة، أو حتى الاشتباك. على صعيد الأفراد. والعالم كله يسير-بأشكال مختلفة- نحو الهاوية.
تحدثت كل منا كيف أنها بطريقتها خرجت من منظومة الأخبار العالمية الوقتية. لا نحتاج لأن نكرس ساعة من يومنا أن نقرأ أو نستمع لمآسي العالم. ثم أن نتابع كل ما يحدث عبر تطبيقات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي لتصلنا أبشع الأخبار لحظة بلحظة. فأذى الآخرون-لأي قلب نابض- هو أذى له. فتخيل لو أن الشخص يجد من يؤذيه لحظة بلحظة.
فكل واحدة منا قامت بإجراء مختلف. لا أخبار يومية. لا تطبيقات أخبار. أو وضع الهاتف على personal mode مثلا لتجنب تصفح أخبار مواقع التواصل الاجتماعي على مدار الساعة ، حتى نحترق ذاتيا ويكون جل ما نحققه أننا نصبح أشخاص غاضبة، غير سوية، تشعر بالعجز، وغير قادرة على بناء أي شيء فعال. ثم عرفت أن الفتاة تعمل في صندوق النقد الدولي. كيف، سألت، وأنت ضد النظام الرأسمالي، وتجدين أن الرأسمالية تسبب في خراب العالم.
ردت ردا مثيرا للإعجاب، “العالم سيستمر في هذا الاتجاه، ولن نوقفها. لكن بإمكاننا أن نوجهه -بقدر ما نستطيع- ليخلق أشياء جيدة. أنا أعمل في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. لماذا لا أوجهه لخدمة الطبقات المهمشة؟ لماذا لا أقوم خارج العمل، وأنا في مؤسسة بيروقراطية تميت القلب، بعمل على تطبيق بنكية يساعد على وصول المال لفلسطين، وهذا ما أفعله بالفعل؟”.
لا زلت أفكر بهذا الرد بين الحين والآخر. نعم. حل “الخروج” من منظومة الأخبار لعله كان بناء بالنسبة لها. فهي عندها القدرة على أن تخدم بأشكال مختلفة، ليست مرتبطة بمتابعة الأخبار، على الأقل بشكل دائم.
وماذا عن الباقي. بالأخص، بقيتنا، من هم عرب ومسلمين وما زالوا مهتمين، وتنتفض قلوبهم من أجل غزة، بعد عام ونصف من الهلاك اليومي.
قمت باستضافة space على موقع x. لم أعد أشعر على القدرة بالكلام. قلت لنفسي، لعلها تكون على الأقل، مساحة استنكار وصول الحصار لقتل ما يقارب ٦٠ طفلا وطفلة من سوء التغذية-أو بمعنى آخر-الموت جوعا. وجدت مستمعين لكن لم يرغب أحدهم في الكلام. كان نفس الإحساس. ماذا نفعل بعد كل هذا. ما نقول.
أشعر بهذه الحالة العامة بين أغلب أطياف الشعب. هذا الحال في غزة. هذا حال العرب. وهذا حال أمريكا! إلى أين ذاهبون، وما الجدوى من المتابعة وإحراق الذات إن كنا نسير بتلك السرعة نحو الهاوية.
ليست هناك إجابة سهلة. لكن الإجابة النصف مريحة التي وجدتها، أن يترك المرء لنفسه موضوعا واحدا يخص الإنسانية يشتبك معه، أو يتابعه عن قرب، ويعطي قلبه راحة من الأمور الأخرى، ولو لبعض الزمن.
وأما عني، وأظن أن هذا ماعلينا كعرب، أن نمنع نفسنا من الخروج الكامل في وسط كل هذا الانحدار، أن لا نخرج من متابعة غزة. فما يحدث ليس عادي. ولن يكون عادي مهما استمر. وما تقوم به إسرائيل من إماتة الأطفال جوعا تستنكره حتى أبشع الأنظمة. حتى في ستالينجراد، حتى في حصار فرنسا في الجزائر، توفر بعض الأمان للأطفال.
إن تركنا كل شيء، فلا نترك غزة. نعم، هناك معاناة كثيرة حول العالم، لكني لم أجد شعبا تآمرت عليه الدول كشعب غزة. فلا تتركوا غزة. ولو بكلمة. ولو بتبرع.