تأملات
راقبتُ أوّل ما راقبتُ وشوش الناس، وضمّاتهم على عتب صالة الوصول: واحدة خاطفة كأداء مهمّة، وأخرى متردّدة غير واثقة إن كانت تعرفُ من تضمّ، وثالثة تبقى طويلاً يغمرها البكاء والضحكُ والهمهمات التي لا يهمّ أن تفهم، ورابعة لم يأتِ ضامّها بعد من سفره، أو لم يتأكّد من حقيقة مشاعره تجاه ضامّه، وبين ضمّةٍ تكادُ تسمع دقّة القلب فيها وأخرى لا تكاد الملابس فيها تتماسُّ، كنتُ أراقبُ في صمتٍ ودهشةٍ وانتباه.
لم يكن أكثر ندرةً في تلك اللحظات من ضمّةٍ طرفاها على قدرٍ مشابه من الشوق. شيءٌ ما اختلّ في وقتِ البعد الذي لا أدركه ذاك؛ ربّما لأنّ الفُرقة طالت، أولأنّهم غادروا وعادوا دون أن يشفو من الغياب، لقاءات مرتبكة مثل جملةٍ ناقصة، مثل يدٍ تمتدّ وتتردّد، ثم تعود إلى جيب المعطف كأنّها أخطأت الطريق، ثم أعادها اكتشافُ الخيبة.
دون انتباهٍ دخلتُ إلى المطار، كأني لم أدخل، إنّما وجدتُ نفسي فيه هكذا فجأةً، كنتُ أمشي خلف إلحاحٍ واحدٍ يسيطر على ذهني: استقبال ليلى. دون تفكيرٍ في المكان ولا وظيفته ولا في الحفرة التي يعمّقها المكان وما قبله في صدري. فقط سرتُ غير واعٍ تمامًا، أحاور الأصدقاء في الوجهة، وتتحايل علينا الآلة التي توجّهنا كأنّها تسخر منّا، إلى أن وصلنا في لحظةٍ ونحن نشارك الآلة السخريةَ من أنفسنا ومن كلّ ما حولنا، إلى أن أصبحتُ هنا، أمام صالة استقبال العائدين في مطار القاهرة، لم ألحظ البوابة التي عبرنا، ولا نقاط التفتيش “أكيد مقعّدين ناس جنب الماكينة عشان يساعدوا القصيّرين” تقول لينا، فأردّ دون تفكير “الحقيقة همّ مقعّدينهم علشان محدّش يسرق الماكينات ” فنضحك .
لعلّنا كنّا نتحايلُ على ما يشغلنا في وصول ليلى: كيفَ أصبحت بعد هذه الشهور من الإضراب؟ هل سيسخّفون عليها وسناء قبل السماح لهما بالمرور؟ هل يعينها جسدها على الوقوف ما زال، أم يخذلها الآن؟ هل ستسمح بأن تخرج على كرسي طبّي أم سترفض كعادتها ما دامت شبه قادرة على الوقوف.
لم يفعل الانتظار- الذي تجاوز الساعتين- أكثر من إشعال المزيد من التوتّر والقلق والاحتمالات والتأويل وتضخيم الفِكَر، لم تكن مباغتةٌ بقدر ما كان تسلل هاديء، ليست كصدمة إنما نغزة صغيرة في الروح تتسرسب وتكبر حتى تشغل كلّ الفراغ الذي أظنّه كان قبل هذه النغزة، أدركتُ أنني الآن في مطارٍ أُمنع من السفر عبره، وجودي غريبٌ هنا على وجهٍ ما، أشعر كما يشعر من حولي-ربّما- أنّني سيُلقى القبضُ عليّ إن لُمحتُ هنا، يتوتّرون حين أتقدّمهم ببضع خطواتٍ لأكون أقرب من باب الخروج ويطلبون مني البقاء جوارهم، لم يكن الخروجُ من الزنزانة نهايةَ شيءٍ بقدر ما كان بداية نسخة أخرى أكثر اتّساعًا وهدوءًا وأقلّ لفتًا للانتبباه، لكن ليست أقلّ قسوة.
في المرّة الأولى التي وجدتني في مطارٍ أودّعُ مسافرة، تراجعتُ عن الكتابة حتى لا أُثقل عليها بعُقدِ مشاعري وعلاقاتي بالأشياء الروتينيّة البسيطة، أو لعلّي وددتُ لو أتجنّب مصارحتها حتى لا أُحرم الصحبة توديعًا واستقبالاً حين يحدث إحداهما، أمّا المرّة فالقادمة هي ليلى سويف ومعها سناء، وقد جاءتا لزيارة علاء وبجانبي ماهينور ومصطفى ولينا (صحبة تامّة من المحاربين والسوابق) حاضرنا وغائبنا، فلا ضيرَ من الكتابةِ إذًا، كأنّ المشاركةَ في المأساةِ يخفف أثر الحديثِ عنها، أو يجنّبها وصمة الشكوى.
انقبض صدري انقباضة المعتقل أو كاد، ولأنّ “المكاره تأتي جملةً..” فلم يكن غير أن تأتي غزّةَ تبعًا، فالأهل هناك ليسوا غير قادرين على مغادرة إن أرادوا أو ألحّت الضرورة، ولا قادرين على البقاء كما أرادوا فعلاً، بل لا يعرفون لو كانت القذيفة القادمة ستصيبهم هم، إن كان جثمانهم سيُعثر عليه أم سيتبخّر كما تبخّرت جثامين أخرى فلم يجد الباقون ما يوارونه الثرى (وهل في ثرى غزّة شبرٌ لم يصبح مدفنًا أو مقبرةً جماعيّة؟)
كان الجميع قد خرج، طائرة هولندا وطائرة أسبانيا وطائرة لندن، ثم بعد الجميع بقليل، رأينا سناء، مبتسمةً بإرهاق، لم أطل النظر إليها، فقط لفتّت انتباه الأصدقاء والصديقات المنتظرين أنّهم خرجوا، وتشبّثنا جميعًا بليلى وجهها ومشيتها وأنفاسها التي تنفسناها معها في تلك الخطوات صعودًا وهبوطًا كأنّها مرّت من صدورنا نحن.
صغيرة في خطوتها، كأنّ الأرض تُثقلها، وكتفاها منكفئتان إلى الأمام كأنّها تحمي شيئًا لا يُرى، لم ترفع نظرها إلى الأعلى، كانت تنظر أمامها فقط، كمَن لا يريد أن يُشتّت قوّته في شيء خارج المهمّة الوحيدة: الوصول.
ما إن رأيتها حتى انتبهت إلى أنني نسيت وجهها، أو ربما لم أنسَه، بل أنستني إيّاه صورُها في الأخبار، وبيانات الإضراب، والمناشدات الموجعة التي لا يستجيب لها أحد، كان وجهها الآن أكثر نحولًا، لكنّه محتفظ بتلك الجمرة الصغيرة خلف العينين، جمرة الإصرار الذي لا يريد أن يتحوّل إلى حقد، لكنه لا يتنازل عن الغضب وإن كان غضب الضاجر الذي ملّ و “طهق”.
اقتربتُ منها بخطى مترددة، ضمّةٌ خاطفة، لأفسح المجال لغيري، ثمّ تربيتة على كتفها الذي لم يكن فيه إلا العظامُ، كانت كفيلة ليسكنني الفزع ولا يُسكِنني-أكتبُ بعد ثلاثةِ أيّامٍ من تلك اللحظة، ولم يخفت حتى ولو قليلاً- كانت وقفتها هناك، على باب صالة الوصول، على هذه الصورة، على هذا الوَهَن، على هذا الثبات، كافية لتقول كل شيء: أنّ الجوع لا يُطفئ الحب، وأنّ الموت -موتنا جميعًا- لا يطفيء الغلّ الذي يملأ سجاننا.
“سأزور علاء غدًا، سأراكم بعد الغد ” قالت وهي “تشخط فينا” حين طلبنا منها أن تستريح قليلاً، حاولتُ طمأنة منى “ليلى لابسة حلو قوي، وبتزعّق لنا كالعادة وماشية على رجلها”، كانت تكتب في اللحظة ذاتها “… أمّ رمنسة الكوابيس”؛ فخجلتُ واعتذرت.
نظرتُ إلى المخرج، بدا لي الآن كأنه بعيد جدًّا، كأنّه لا يُفضي إلى الخارج، بل إلى طبقة أخرى من الانتظار
انتظار السفر، انتظار النجاة، انتظار علاء.. أو انتظار الحريّة.