مشاركات سوريا

أحمد الذي خرج من سجون الاحتلال فابتلعه نظام “الممانعة”

مايو 5, 2025

أحمد الذي خرج من سجون الاحتلال فابتلعه نظام “الممانعة”

واصل حميدة



في صباح دافئ مشبع بوعود الحرية، وقف أحمد ياسين خميس على مشارف الحلم. بعد سنواتٍ سبع عشرة طوال أمضاها الشاب الفلسطيني السوري أسيراً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حاملاً جراح ساقه وندوب العزلة في زنزانة ضيقة، ظنّ يومها أن الشمس ستشرق أخيراً عليه وعلى قلبه المعلق بخيط رفيع من الأمل. وهناك في رام الله، ارتدت زوجته نداء ثوباً بلونه المفضل، منتظرةً خطوات زوجها التي لم تأتِ.



غير أن المشهد انقلب فجأةً إلى كابوس؛ اختفى أحمد على أعتاب وطنه الأم، غُيّب، لكن ليس على يد عدوٍ يعرفه جيداً، بل في دهاليز نظام طالما تغنى بشعار “المقاومة والممانعة”. أحمد، الذي تحدى سجّان الاحتلال، ابتلعته غياهب السجون السورية، حيث لا قانون يحكم ولا صوت للعدالة.


الفلسطينيون في حضرة الاستبداد الأسدي

 

منذ سبعينيات القرن الماضي، شكلت سوريا في عهد حافظ الأسد ثم ابنه بشار، ساحة من المفارقات الحادة في التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين. رفع النظام شعارات “تحرير فلسطين” و”دعم المقاومة”، بينما كانت أجهزته الأمنية تمارس صنوف القمع بحق الفلسطينيين، كما بحق السوريين أنفسهم.



ففي مجزرة تل الزعتر عام 1976، لعب النظام السوري دوراً دموياً في محاصرة وقتل آلاف الفلسطينيين في لبنان. ثم جاءت حرب المخيمات في الثمانينيات، حيث قُصف مخيما صبرا وشاتيلا في ظل تواطؤ واضح بين الأسد وميليشيات محلية. أما في الداخل السوري، فقد تعرض مخيم اليرموك، الذي كان يوصف بـ “عاصمة الشتات الفلسطيني”، لحصار خانق منذ عام 2012، أسفر عن موت مئات المدنيين جوعاً، ثم دُمّر بالبراميل المتفجرة في حملة عسكرية لا هوادة فيها.



تحت مسمى “أمن الدولة” و”مكافحة الإرهاب”، زُجَّ بآلاف الفلسطينيين في السجون السورية دون محاكمة أو تهمة، وبينما كان العالم ينظر إلى “إسرائيل” بوصفها الخصم الوحيد للفلسطينيين، كان نظام الأسد يمارس أشكال قمع موازية وممنهجة بعيداً عن أعين الإعلام.


أحمد نموذجاً..

 

عاش أحمد ياسين خميس طفولةً قاسيةً فقبل أن يكمل عامه الأول فقد والدته في حادث اغتيال عام 1985 كان المستهدف بها والده أحد رجالات حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” ليعيش بعدها هذا الرضيع في كنف عائلة فلسطينية مقيمة في سوريا بعيداً عن والده الذي خرج مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس وانشغل بالعمل الوطني هناك.



عام 1998 وخلال اتجاه أبو أحمد إلى سوريا لزيارة ابنه بلغ حينها 13 عاماً طالته عملية اغتيال أودت بحياته، وأشارت أصابع الاتهام حينها إلى تورط النظام السوري بالعملية، لينشأ أحمد يتيم الأب والأم تحت رعاية “مدرسة أبناء الشهداء” في سوريا وبين حارات مخيم اليرموك، ذاك المكان الذي كان يشبه وطناً مصغراً لكل من شُرّدوا عن أرضهم ومساحة للتفاعل الفكري والسياسي لأولك الحالمين بأوطان أفضل.



رغم الخسارات المبكرة وقسوة الحياة، ظل أحمد يحلم بإكمال تعليمه وبدأ بدراسة الأدب الإنكليزي، كان شغوفاً بالحياة، يعمل نهاراً ويتابع دراسته ليلاً.



لحظة تحولت فيها أحلامه إلى معركة

 

في عام 2005، وبينما كان أحمد في بداية العشرينات من عمره، اتخذ قراره الكبير. لم يستطع أن يبقى متفرجاً على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي محملاً بشعور الظلم الذي وقع على أبناء شعبه هذا الظلم الذي حرمه أيضاً من أمه ووالده.

خرج أحمد من أزقة مخيم اليرموك مودعاً كل من عرفه بحجة السفر إلى إحدى الدول الخليجية للعمل ورحل. كان هدفه مختلفاً تماماً، وما إن جاءت ساعات صباح اليوم التالي حتى عرف الجميع، بأن أحمد نفذ عمليةً ضد ثكنة عسكرية لقوات الاحتلال في الجولان السوري المحتل.

ببارودة صيد قديمة، واندفاع شابٍ لم يكسر الخوف قلبه بعد، تسلل أحمد إلى داخل الحدود المحتلة وأطلق النار على الجنود الإسرائيليين. أصيب بأربع رصاصات في ساقه وخاصرته، وفقد الوعي خمسين يوماً متواصلة.

عندما استيقظ، كان مكبلاً بالأصفاد على سرير مستشفى عسكري إسرائيلي. لاحقاً، بعد تحسن حالته الصحية، أُحيل إلى المحاكمة، وعُين له محامٍ إسرائيلي من قبل المحكمة، دون أن يحظى بتمثيل قانوني فلسطيني. حُكم عليه بالسجن لمدة 19 عاماً، وقضى منها سبع سنوات بشكل متقطع في الزنازين الانفرادية، داخل غرفة لا تتجاوز مساحتها 90 × 90 سنتيمتراً، يتنفس عبر ثقوب صغيرة في الجدران.

حياة الأسر: حبٌ عبر الأسلاك الشائكة

 

تعرض أحمد خلال أسره لتعذيب قاسٍ وحُرم من أبسط حقوقه، يعيش وحيداً دون عائلة تدعمه. تغيرت حياته تدريجياً بعد تعرفه على نداء أبو اسنينة من الخليل، خلال زيارتها لشقيقها الكفيف في السجن. تقول نداء:

“في الزيارات، وجدت فيه قلباً نابضاً بالأمل رغم كل الألم”.

بين أسوار الاحتلال، تطوّرت علاقتهما حتى تزوجا عبر اتصال هاتفي رعته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بحضور الأسرى الذين احتفلوا معه ببساطة تفوقت على جدران السجن.

لاحقاً، حصلت نداء على تصريح زيارة شهري، لكن لقاءاتهما كانت قصيرة وقاسية، خلف زجاج سميك وتحت مراقبة مشددة، وكانت رحلة الزيارة إلى سجن النقب تستغرق أكثر من 13 ساعة.

تحكي نداء عن لقائهما الأول بعد الزواج: “اختلطت عليه المشاعر وجلس يبكي فرحاً بانتمائه لعائلة طالما افتقدها.” عند خروجها من الزيارة، استقبلتها أمهات الأسرى بالترحاب على أبواب السجن، لكن طريق العودة كان مثقلاً بالدموع والتحديات القادمة.

خلال الأسر، حاول أحمد متابعة دراسته في العلوم السياسية، لكنه حُرم منها لاحقاً بقرار تعسفي. ومع نداء، نسجا حلماً مشتركاً: بناء بيت صغير في دولة عربية مجاورة، بعيداً عن جدران السجن، حيث يتسنى لهما تربية أطفال وحيوانات كان أحمد يتخيلها بشغف وهو خلف القضبان.

 

 

من سجون الاحتلال إلى سجون الممانعة

 

في 21 نيسان/أبريل 2019، استدعت إدارة السجون الإسرائيلية أحمد وأبلغته بوجود قرار مبدئي بالإفراج عنه. لاحقاً، وبحسب ما قاله لنداء، تلقى أحمد اتصالاً عبر إدارة السجن من وزير خارجية النظام السوري الأسبق، وليد المعلم، الذي سأله عن وضعه وعدد المعتقلين السوريين برفقته. خلال الاتصال، طلب المعلم من أحمد تحديد المكان الذي يرغب بالخروج إليه، فأجاب بأنه يود الانتقال إلى مدينة الخليل في الضفة الغربية، حيث تعيش زوجته، مؤكداً أنه لا يملك أهلاً أو أقارب في سوريا. أجابه المعلم قائلاً: “لك ما تريد، الخيار لك يا بني”، تحفظ المعلم عن إخبار أحمد بأن صفقة التبادل تتضمن نقله إلى سوريا خشية رفضه الإفراج، حيث كان النظام السوري يبحث عن تسجيل إنجاز مزيف على حساب مصير أحمد وأحلامه، يُصدره للرأي العام في محاولة للتغطية على المجازر التي يرتكبها بحق الشعب السوري.



بعد جلسة الاستخبارات التي يخضع لها كل أسير محرر والتي يُهدد خلالها بأنه تحت المراقبة وفي حال عودته إلى النضال فستكون العاقبة وخيمة وقّع أحمد على أمر الإفراج عنه إلى الخليل، ليبدو واضحاً كيف اتفق الأسد والاحتلال على خديعة أحمد وإيهامه بأن خروجه بموجب الصفقة سيكون إلى الخليل وليس إلى سوريا.



استعدت نداء لاستقبال زوجها وجهزت بيتها، زيّنت عائلتها مدخل بيتهم وشارعهم، واشترت ملابس جديدة لأحمد. في الـ 25 من نيسان الموعد المقرر لخروجه من الأسر بموجب الصفقة، انتشر أفراد عائلة نداء على المعابر التي يمر عبرها الأسرى المحررون من سجون الاحتلال، وظلوا في انتظار منذ الفجر حتى ساعات الليل، دون أن يعود أحمد.



اختفى لأيام وانقطع الاتصال به، ما دفع نداء وعائلتها للبحث عنه عبر أجهزة الارتباط العسكري والمدني، وفي كافة السجون الإسرائيلية، دون جدوى. لاحقاً أبلغها وزير شؤون الأسرى أن أحمد سيتم تسليمه عند الحدود السورية في القنيطرة في السابعة صباحاً من يوم الـ 28. وبالفعل وفي تماما التاسعة صباحاً من اليوم ذاته، اتصل بها أحمد عبر هاتف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وأخبرها أنه محتجز على الحدود السورية، وأن السلطات السورية ستقوم باستلامه. وأوضح لها أنه في حال لم يتم الإفراج عنه خلال أسبوع، فعليها متابعة قضيته وإبلاغ السلطة الوطنية الفلسطينية.



كانت تلك آخر مرة تسمع فيها صوته، تقول نداء: “شعرت بضياع غريب خاصة أن صوته كان قلقاً وخائفا، حاولت طمأنت نفسي بأن أحمد ليس مطلوباً بشيء في سوريا، وكل الإجراءات تبدو روتينية”. لكن سرعان ما صدمتها أفكار سوداوية: تلك السيارة البيضاء التي نشرها إعلام النظام على أنها إسعاف لنقل الأسرى… ربما لم تكن سوى قفص متحرك يقودهم إلى جحيم آخر.



الاخفاء القسري.. جريمة بلا أدلة وبلا عقاب

 
 

على مدار عقود، استخدم نظام الأسد القضية الفلسطينية كوسيلة لتحقيق شرعية سياسية. رفع صور القدس في الميادين، ودعا لتحرير الجولان، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً. في الداخل، تعاملت أجهزة المخابرات السورية مع اللاجئين الفلسطينيين كـ “رعايا من الدرجة الثانية”، عرضة للاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، دون محاسبة أو حماية قانونية.



لم تكتفِ أجهزة النظام بإخفاء خميس، بل بدأت بحملة تضليلٍ ممنهجة عبر بعض الوسطاء من المسؤولين الفلسطينيين في سوريا حيث أخبروا نداء أنه “في عهدة المخابرات السورية” وزعموا أنه إجراء روتيني وسيُطلق سراحه قريباً. إلا أن الشهور مرت دون أي جديد، مع تبريرات بأن التحقيقات مستمرة معه نظراً “لحساسية العلاقة بين سوريا وإسرائيل”، هي ذات العلاقة التي أثمرت خديعة أحمد وإقناعه بالخروج من الأسر.



“معاناة الفقد والانقطاع كانت قاسية” تقول نداء بحرقة وغصة موضحة أنه كانت تصلها أخبار متقطعة عن أحمد، دون أي وضوح حقيقي. ورغم محاولتها نشر قضيته عبر منصات التواصل الاجتماعي، تلقت رسائل تهديد مبطنة تطالبها بالصمت أو النزول إلى سوريا والبحث عنه بنفسها.



ووفق معلومات حصلت عليها العام الماضي من أحد المسؤولين في وزارة العدل السورية والذي تعاطف مع قضيتها، حيث زعم أن أحمد موجود في فرع “فلسطين” بدمشق، بل وأنه تم التواصل معه وإخباره بأن خطيبته تتابع ملفه وتسعى للإفراج عنه، مبينةً أن أحمد ظل محتجزاً في “فرع فلسطين” التابع للنظام السوري حتى ديسمبر/كانون الأول 2024، أي حتى اللحظات الأخيرة لنظام الأسد.



اليوم تتنقل نداء بين المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي والتجمعات المدنية التي أسست للبحث عن المفقودين والمغيبين في سوريا ولكشف المتورطين بهذا الملف، ترسل صورة أحمد وقصته شأنها شأن عشرات الألوف من الأمهات والزوجات السوريات والفلسطينيات، علّها تصل لأحد رأى أو التقى بأحمد داخل أقبية الأسد، وسط غياب جهد حكومي أو دولي حقيقي حول قضيتهم.



السجن الإسرائيلي كان قاسياً، لكنه محكوم بقوانين دولية معينة، ولو كانت منقوصة أو مجحفة، بالمقابل معتقلات الأسد، لا تعترف بوجود الأسير أصلاً، يصبح الإنسان فيها شبحاً، يموت ببطء بين أساليب تعذيب وحشية، دون محاكمة أو حتى إعلان وفاة.



ورغم انضمام سوريا إلى اتفاقية اللاجئين لعام 1951، لم تطبق الحكومة السورية أي من الالتزامات المنصوص عليها تجاه الفلسطينيين، بل زادت على ذلك بمعاملتهم كمشتبهين دائمين، خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، حين ارتفعت وتيرة الاعتقالات والإخفاء القسري ضدهم بشكل جنوني.



من أجل أحمد… ومن أجل كل المغيبين



قصة أحمد ليست استثناءً، بل هي عنوان مفتوح لعذابات آلاف الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم في قبضة أنظمة تدّعي نصرتهم، بينما تسحق أحلامهم بلا رحمة، كما سحقت أحلام شعوبها.



اليوم، وبعد سنوات من الفقد والانتظار والخذلان، تبرز الحاجة الملحة لفتح ملف الفلسطينيين المعتقلين والمغيبين قسراً في سوريا على أوسع نطاق.



إن كشف هذه الجرائم ليس مجرد واجب إنساني، بل هو جزء لا يتجزأ من معركة الدفاع عن جوهر القضية الفلسطينية، التي تقوم أولاً وأخيراً على قيم الحرية والكرامة والعدالة، لا على شعارات جوفاء ترفعها أنظمة مستبدة لتبرير بقائها.



وعليه يجب على المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية إدراج ملف المعتقلين الفلسطينيين في سوريا ضمن أولوياتها العاجلة، وعدم فصله عن ملفات المعتقلين السوريين، ومطالبة الأمم المتحدة واللجان الدولية الخاصة بحالات الاختفاء القسري بفتح تحقيق مستقل وشفاف حول مصير المعتقلين السورين والفلسطينيين المغيبين في سجون النظام وضمان محاكمة المتورطين، إضافة إلى دعم المبادرات المدنية التي تعمل على توثيق حالات الاختفاء القسري ونشرها إعلامياً وحقوقياً لتبقى القضية حية في وجدان العالم.



إن البحث عن أحمد، وعن كل المغيبين، ليس مجرد مهمة عائلية أو فردية. إنه صرخة ضمير إنساني وسياسي في وجه أنظمة دأبت على خيانة شعوبها وقضاياها.

شارك

مقالات ذات صلة