-علي مكسور
لقد كان الزمان يمضي فوق أحلامهم المُغمَّسة بالكرامة، وبين طيّات الأمل المنسيّ عند عتبة اليأس المُتعبة. غادروا البلاد حَملاً للكرامة، وركضوا في المنافي بين طوابير الهجرة وأذونات التنقل. كان الأمل القابع بعد الثامن من ديسمبر يحيط بالأعين وينخر في الذاكرة، ينادي الأمس ويشده إليه شدّ الواثق بالنصر والنجاة. ادّعى المنهزمون أنهم انتصروا، وأن البلاد غدت تحت وطأة حكمهم، وأن السوط الذي جلدوا به قد أوجع ومكّن لهم الأرض ومن عليها.
خرج المتعبون بأنفسهم وكرامتهم وأملهم بالغد المأمول، الأمل الذي دُفن بجانب دماء الأخ وابن العم ورفيق الطريق.
في بلادٍ بعيدة عن الوطن الأم، غرسوا الخيام واستأجروا البيوت. تعلموا اللغات وتلعثموا بها، خذلتهم الألسن وخانهم التعبير، وبكوا على لغة طالما تفنّنوا في تعابيرها وأبدعوا في استعاراتها.
لقد خذلتهم اللغة. ويا لمأساة متفوّه يعرف كيف يعزف الجملة نوتةً موسيقية، فإذا به يكتفي بابتسامة مصطنعة أو ضحكةٍ مخترعة يواجه بها الطرف الآخر، معوّلاً على فطنته في إدراك رغبته بإنهاء الحديث.
عاش السوريون مرارة البُعد، ومأساة اللا وطن. عاشوا حياتهم في المنفى، مشيّدين بيوتهم بالكرامة التي خرجوا لأجلها، وبصبرٍ متأجّج على بطش الألسن ولدغ الكلمات.
أن تكون بلا ظهرٍ تستند إليه، ولا قوةٍ تلوذ بها من عنصريةٍ حمقاء، تلك كانت المأساة.
وجاء الثامن من ديسمبر، يوم الحريّة الكبير. يومٌ انتظره الأحرار عقداً من الزمن وفوقه أربعاً عجاف. توقفت الدماء في الشرايين، وانهارت الدموع على الوجنات مع كل قرية تحررت، وكل محافظة أزاحت عن كتفها غبار الظلم.
فرح المهجّرون، وارتسمت على الوجوه البائسة فرحةٌ عارمة بالخلاص من الوحش الجاثم على الصدور. تحررت البلاد، وزهَّرَ الأمل المدفون في غياهب الظلمات. وبقي الألم القسري من عدم القدرة على العودة إلى الوطن؛ ألمٌ مغمسٌ بوثائق لجوء تحول بين المرء وروحه الكامنة في داره هناك.
كُسّرت الأصفاد، لكن بقيت الوثائق تطوّق أعناق اللاجئين في المنافي، لا هم قادرون على كسرها، ولا هم متمكنون من ترويض القوانين كما يشتهون ويتمنون.
نحن أبناء المنفى، اخترناه حاملين العلم والقلم، وقضيةً محقّةً بُذل لأجلها كل غالٍ وثمين.
زال الظلم، وغدا النظام السابق بائداً. ابتهج اللاجئ لحظة، وبقي مرابطاً أمام الشاشات يراقب الأخبار، تعلو وجهه ابتسامة تُجاور دمعة وجدت طريقها بين أكوام الذاكرة وبؤس الواقع.
وصوته الشجي، المخضّب بالحزن والشوق، يردد ما قاله بدويّ الجبل يوماً:
أَرَى طَيْفَكَ الْمَعْسُولَ فِي كُلِّ مَا أَرَى
وَحُدْتُ وَلَكِنْ لَمْ أَجِدْ مِنْهُ مَهْرَبَا
سَقَانِي الْهَوَى كَأْسَيْنِ: يَأْساً وَنِعْمَةً
فَيَا لَكَ مِنْ طَيْفٍ أَرَاحَ وَأَتْعَبَا
وَخَالَطَ أَجْفَانِي عَلَى السُّهْدِ وَالْكَرَى
فَكَانَ إِلَى عَيْنِي مِنَ الْجَفْنِ أَقْرَبَا
يَا رَبَّ: إِنَّ الْقَلْبَ مُلْكُكَ إِنْ تَشَأْ
رَدَدْتَ مَحِيلَ الْقَلْبِ رَيَّانَ مُخْصِبَا
وَيَا رَبَّ فِي ضِيقِ الزَّمَانِ وَعُسْرِهِ
أَرَى الصَّبْرَ آفَاقاً أَعَزَّ وَأَرْحَبَا