Blog
للكاتب: محمد اليوسف
لا أستذكر رياض الصالح الحسين عادةً دون أن أستذكر الروابط التي تجمعني معه. لا تتوقف تلك الروابط عند الأمور العامة مثل أننا من نفس البلاد أو أنه شاعر وأنا قارئ؛ تجمعني مع رياض روابط أعمق، إذ إنني لا أقرأه فحسب، بل أتعاطف معه، وأشعر فيه، وأعيشه، نظرًا لحياته وسيرته القاسية والمؤلمة، وقدره الذي لم ينصفه، ربما، إلا بعد موته. إذ لم يكن رياض، برغباته البسيطة، يتمنى أشياء كثيرة في حياته، لكن على الرغم من ذلك عاش رياض حياة صعبة، تخللتها انكسارات وخذلان وجروح، لا تدعوني إلا للتعاطف مع رياض، وبالشعور في رياض. رياض عندي: قصة مأساة لم تنصفها الحياة، وحكاية خذلان طويلة، ووجه البلاد المنسية.
من هو رياض الصالح الحسين (1954 – 1982)؟
ولد رياض الصالح الحسين في درعا بتاريخ 10 مارس 1954، لعائلة تعود أصولها إلى بلدة مارع شمال سوريا (حلب). أم رياض تكون زوجة أبيه الثانية. اضطر رياض لترك الدراسة مبكرًا بسبب مرضه بالتهاب المجاري البولية، الذي تطور ليغدو قصورًا كلويًا حادًا، مما أدى إلى إجراء عملية جراحية في مشفى المواساة بدمشق عام 1967، كانت من نتائجها أنه فقد السمع والقدرة الطبيعية على النطق.
في عام 1974، أجرى رياض عملية ثانية في بلغاريا للتخفيف من عواقب العملية الأولى، حيث تعرف على سمر المير (س) التي أتى على ذكرها في قصائد عديدة. كان رياض على علاقة قريبة من الأمومة بأخته من أمه السيدة (فريزة).
بدأ رياض بنشر قصائده عام 1976، وكانت بدايته، كمعظم شعراء جيله، موزونة ومقفاة، في مجلة “جيل الثورة”. في عام 1977، تحول رياض – وبشكلٍ نهائي – لكتابة قصيدة النثر. في عام 1978، انتقل رياض للحياة في دمشق، وسريعًا انخرط في الجو الثقافي للمدينة، وعمل في مكتب الدراسات الفلسطينية حتى وفاته. سكن رياض في حي الديوانية الشعبي، في غرفة وحيدة بحمام ومطبخ، يصعد إليها بواسطة درج.
في الفترة الأخيرة من حياته، تصادق رياض، وكان شديد القرب من الشعراء العراقيين المقيمين في دمشق: مهدي محمد علي، وهاشم شفيق، وكريم كاصد. يأتي ذكر أسماء سيدات صادقهن رياض وأحبهن، إلا أنه في آخر سنة عاشها، كان مولعًا بسيدة عراقية تدعى “هيفاء أحمد”، وقد تقدم رياض لخطبتها رسميًا، مصطحبًا معه صديقه الشاعر مهدي محمد علي وصديقين عراقيين.
تعرض رياض لأزمة عاطفية قاسية عندما قطعت السيدة هيفاء أحمد علاقتها معه، إثر معرفتها برحلته إلى اللاذقية بصحبة الفنانة التشكيلية هالة الفيصل. مما جعله لا ينام لأيام، يقضي لياليه وحيدًا دون صحبة أحد، سوى التدخين والكحول، مما أدى إلى انهياره بالكامل، صحيًا وذهنيًا.
عقب ذلك، وأثر انقطاع رياض عن مقهى الروضة ومجلة البديل لأيام، ذهب صديقاه مهدي محمد علي وهاشم شفيق إلى غرفته، ليجدوه مكوّمًا فوق سريره، يرتجف ويهلوس ويطلب ماءً، فراح مهدي يعبئ الماء من الصنبور خارج الغرفة براحتيه ويسقيه. إثر ذلك، نقل مهدي وهاشم صديقهما إلى مشفى المواساة في حالة إسعافية عصر الجمعة 19 نوفمبر 1982. وفي يوم السبت 20 نوفمبر 1982، الساعة الرابعة مساءً، رحل رياض عن عالمنا. مات رياض الصالح الحسين عن عمر لا يتجاوز 29 عامًا.
يوم الأحد، نُقل جثمان رياض إلى بلدته مارع شمال سوريا، حيث مضت عشر سيارات استقلها العديد من أصدقاء رياض، واحدة منها سيارة إسعاف الهلال الأحمر الفلسطيني. بعد دفن رياض، عاد أبوه إلى دمشق، ويذكر بندر عبد الحميد أن أكثر ما اهتم به أبوه لرياض هو المستحقّات المالية والأمور المادية الأخرى.
يقول مهدي محمد علي – صديق رياض – إنه، رغم اضطرابه الشديد، سمح لنفسه، قبل مغادرته غرفة رياض للمرة الأخيرة، بفتح درج الطاولة وإخراج مخطوطة وعل في الغابة التي كانت جاهزة للطبع تمامًا، حتى الإهداء: “إلى هيفاء أحمد”. (اعتمدت على السيرة التي كتبها الشاعر منذر مصري – صديق رياض – في مقدمة الأعمال الكاملة).
مجموعات رياض الشعرية:
لتنتهي بذلك حياة رياض، العاطفي، الحالم، المحب، وتنتهي معاناته الصحية والعاطفية بموته المبكر للأسف. ويُذكر أن زاد الإقبال على شعر رياض، وزاد الاحتفاء به وبشعره بعد وفاته.
قراءة في شعر رياض وفي بعض قصائده
اعتياد
أعددت لكِ فنجان القهوة
فنجان قهوة ساخنة
القهوة بردت وما جئتِ
وضعت وردة في كأس ماء
وردة حمراء
حمراء الوردة
ذبلت وما أتيتِ
كل يوم أفتح النافذة
فأرى الأوراق تتساقط
والمطر ينهمر
والطيور تئن
ولا أراك
لقد اعتدت أن أعدّ القهوة كل صباح لإثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس
لقد اعتدت أن أنتظرك
أيتها الثورة!
في هذه القصيدة يكتب – وينتظر – رياض الصالح الحسين عن الثورة. يكتب رياض الذي تمنى مضغ عنب الحرية، البسيط صاحب الرغبات البسيطة، الذي اعتاد أن ينتظر الثورة. وكان رياض قد ذكر الثورة والحرية في عدة قصائد في مختلف مجموعاته الشعرية.
كان قد كتب رياض في مجموعته الشعرية الأخيرة – نُشرت بعد وفاته – في القصيدة الأخيرة المدرجة أعلاه (اعتياد) في سطرها الأخير: “لقد اعتدت أن أنتظرك أيتها الثورة”. رياض الذي كان ينتظر الثورة، أخذه الموت منا قبل أن يشهد الثورة التي اعتاد أن ينتظرها.
ذهب رياض ولم يرَ الثورة تنطلق لتخلع عن البلاد التي أحبها ثوب الاستبداد الممتد عبر عقود. فقدنا رياض قبل أن يشهد انتظاره الطويل، انتظاره الذي بردت أثناءه القهوة، وذبلت الوردة الحمراء، وتساقطت الأوراق، وانهمر المطر، وأنّت الطيور، وذهب رياض.
كتب رياض وعبّر عن رغبة الثورة، التي ربما ما كان غيره ليكتب عنها في زمانه، نظرًا لثمن ذلك، الثمن الذي دفعه رياض: الاعتقال. ويذكر أن رياض قد تعرض للاعتقال بعد مشاركته – إلى جانب عدة أدباء سوريين – في إصدار نشرة “الكراس الأدبي”، وقد تعرض رياض تحديدًا لمزيد من التحقيق والتعذيب، بغية التأكد من صممه وتعثر نطقه.
يمتاز شعر رياض بالبساطة من ناحية اختيار الكلمات والمصطلحات وحتى المواضيع، إذ لا يفعل مثل كثير من الشعراء ممن يكتبون عن الفخر مثلًا، ولم يبكِ على الأطلال أيضًا، ولم يكتب عن الحب المستحيل والعشق الذي يعذب صاحبه (على الرغم من أن رياض مرّ بعلاقتين عاطفيتين مأساويتين، إلا أنه عبّر عن ذلك – كعادته – بكلمات بسيطة تمسّ الإنسان من داخله دون تكلف شاعريّ مبالغ فيه).
هكذا ربما نجح رياض بأن يلامس قرّاءه عن قرب، وربما نجح في أن يكتب عنهم ويعبّر عنهم، لأنه إنسان بسيط يمكنه أن يعبر عن البسطاء وأصحاب الرغبات البسيطة أمثاله.
أين تجد شاعرًا يكتب في الأشياء البسيطة؟ أشياء رياض الذي كتب عنها، مثل القبلة، الخبز، الزهور، القمر، الشمس، الحبيبة، العدالة، الحرية، وغيرها من العاديات التي إذا أردنا أن نربطها بشاعر ما، أو أن نربط هذا التوجه الشعري بشاعر ما، من الممكن أن نطلق عليها: “أشياء رياض العاديّة”.
أين تجد شاعرًا يكتب عن النهر، ورائحة الصباح، والأغاني، والسفر، ويكتب أيضًا عن هزائمه الصغيرة، وانتصاراته الكبرى، ويكتب عن الرقص والجنون والقبلة؟ هل من شاعر يكتب قصيدة ليقول لنا ببساطة، إنه تعلم أن يبتسم ويقول وداعًا، وأن يتألم، وأنه اكتشف الكلمة الجميلة، وأنه رأى ثمة أشياء لم يكن يراها، مثل أيدي الأمهات، وأكياس الطحين، وطلاب المدارس؟ هل من شاعر يكتب لنا قصيدة يخبرنا فيها أنه تعلّم واكتشف، وبدأ يرى الكثير من الأمور متأخرًا قليلاً، إلا رياض؟ (الإشارة هنا إلى قصيدة رياض: “رغبات، كنجمة في السماء كوعل في الغابة” من ديوانه: وعل في الغابة)
هل من شاعر يكتب لنا عن رغباته البسيطة، مثل أن يذهب إلى القرية ليقطف القطن، ويشم الهواء، وأن يعود في شاحنة مليئة بالفلاحين والخراف؟ أو مثل أنه يريد أن يغتسل في نهر تحت ضوء القمر، ثم يرغب رياض في فعل شيء أكثر نبالة: في أن يسرق الزنازين، ويلقيها في البحر. ثم يريد أن يختبئ في زهرة، خوفًا من القاتل الذي يريد – رياض – له أن يموت حينما يرى الأزهار. ثم يريد رياض أن يخطف غيمة ويخبئها في سريره. أخيرًا، يريد رياض للكلمة أن تكون شجرة أو رغيفًا أو قبلة، ويريد لمن لا يحب الشجرة والرغيف والقبلة أن يمتنع عن الكلام. من يكتب عن استحالة الرغبات البسيطة واللطيفة والآمنة هذه إلا رياض؟ (الإشارة هنا إلى قصيدة رياض “رغبات” من ديوانه: وعل في الغابة)
لهذه الأسباب، ربما يُقرأ رياض، لأنه مثلنا، يشبهنا، رغباته وأمانيه صغيرة مثل كثير منا. وبرغم عاديّة وبساطة مواضيع رياض التي كتب فيها، فهو – وكجزء من لوحة عاديّته التي صاغها بالشعر – كتب في مواضيع نبيلة، وكتب عن مبادئ مشرفة تعبر عن شريحة كبيرة من الناس وتشبههم. فرياض مثل الناس، يكره الزنازين والجوع والمذابح والقنابل والوحدة، ويحب الزهور والقمر والقبل والشمس والبلاد.
في قصيدته الشهيرة (سورية) كتب رياض:
يا سورية الجميلة السّعيدة كمدفأةٍ في كانون
يا سورية التعيسة كعظمةٍ بينَ أسنانِ كلب
يا سورية القاسية كمشرطٍ في يدِ جرّاح
نحن أبناؤك الطّيبون الذين أكلنا خبزَكِ
و زيتونَكِ و سياطَكِ
أبدًا سنقودُكِ إلى الينابيع
أبدًا سنجفّفُ دمَكِ بأصابعنا الخضراء
و دموعَكِ بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقُّ أمامَك الدروب
ولن نتركَكِ تضيعين يا سورية كأغنيةٍ في صحراء.
في هذه القصيدة التي عادة ما تُقتطع، يُذكر أن رياض – ونحن – أكل خبز وزيتون سوريا، لكن لا يُذكر السياط، كجزء من لوحة سوريا الجميلة والتعيسة، الكريمة والظالمة. وأيضًا يتمنى رياض – وربما يتنبأ – أننا سننقذ سوريا يومًا، وأننا سنأخذها من بين أسنان الكلب، ومن يد الجرّاح، ويوقن أننا سنقودها إلى الينابيع، ونجفف دموعها.
اليوم، وبعد أن أسقطنا النظام، نكون قد بدأنا إنقاذ سوريا، ولا ضير بأن نأخذ قصيدة رياض هذه مبدأً ومنهجًا. فسوريا المتعبة، التعيسة، الحزينة، المتهالكة، المسروقة منذ ستون عامًا، تريد منا أن نقودها إلى الضفة الآمنة، أن نقودها إلى الينابيع، تريد منا أن نجفف دمها بأصابعنا الخضراء، ودموعها بشفاهنا اليابسة، سوريا تريد أن نشق أمامها دروب المستقبل، وأن نحتفظ بها، ولا نتركها مجددًا كأغنيةٍ في صحراء.