مدونات

قراءة في كتاب: “رحلتي من الشك إلى الإيمان”

مايو 2, 2025

قراءة في كتاب: “رحلتي من الشك إلى الإيمان”

مصطفى محمود ورحلة التقاء الدين والعلم


عُرف الكاتب والطبيب المصري مصطفى محمود بمزجه بين العلم والدين في كتاباته وحتى برنامجه الشهير “العلم والإيمان”، إذ ساهم تكوينه في الطب في خلق نقاط الالتقاء بين العلم والدين، والخوض في مواضيع دينية ومجتمعية تثير الفضول والجدل، رغم تعرضه للنقد الشديد جراء ذلك، بدايةً بصدور أول عمل له “الله والإنسان” الذي حُظر في مصر، ونال الكثير من الاتهامات بالإلحاد والتكفير، لكن مع ذلك واصل مصطفى محمود الدفاع عن مشروعه الفكري، إلى أن صار منهجًا يُقتدى به، لحد وصفه من قبل المفكر الإسلامي محمد عمارة: “إن مصطفى محمود حارس الإيمان الديني”.


تتميز أعمال مصطفى محمود بالجرأة الفكرية في التحليل والنقد، ليس لغرض التشكيك فقط، بل للبحث عن الحقيقة، وعدم جعل الجهل يطال المعتقدات الدينية التي يتبناها المرء. ومن بين أعماله المثيرة للجدل، كتاب “رحلتي من الشك إلى الإيمان” الذي تناول فيه عدة إشكالات متصلة بالدين، وهو موضوع تدوينتنا هذه بغاية الكشف عن أهم الأفكار التي تضمنها كتابه.

تضمن الكتاب 8 محاور، والمُلاحظ أن كل محور يكمل الآخر، وينبثق من أسئلة وجودية في الغالب ما نطرحها على أنفسنا في لحظات السكون (الله، الجسد، الروح، العدل الأزلي، لماذا العذاب، الخلوة، التوازن الطبيعي، المسيح الدجال). ففي كل محور، يحلل ويفسر، تارة من منظور علمي وتارة من منظور ديني، دون أن يُلغي أحدهما الآخر.


في المحور الأول المعنون بـ”الله”، بسط من خلاله الأسئلة الوجودية التي يطرحها الفرد على نفسه في لحظة تأمل، خاصة عند المراهقين، حيث يكون التساؤل حول الغاية من الخلق، والكون، وغيرها من الأسئلة الوجودية. في مقابل ذلك، يرفض المحيط (المجتمع) الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، ويعتبرها تمردًا وطيشًا، وأنها تندرج ضمن الغيبيات ولا يجوز الخوض فيها.

سيتوصل الكاتب، بعد بحث طويل، إلى أن هذه الأسئلة -بالنسبة له- في عمقها لم تكن نابعة من البحث عن الحقيقة، بل لأن النقاش في الوجوديات كان نوعًا من الموضة، وفرصة للتعبير عن القدرة على المساجلة. وأكد بأن ضعف الفطرة والجهل بالمنطق، هو ما يؤدي للخوض في الغيبيات بشكل سطحي.


ولحسن حظ الكاتب، أن شغفه بالعلوم جعل مُنطلقه في كل تساؤل هو “العلم”، حيث يحضر المنطق، والنظرة الموضوعية، مما أتاح له المزج بين البعد الديني والعلمي، ليؤكد أن كلاهما متكامل ولا يُلغي أحدهما الآخر.

أشار لإشكال الانبهار بالغرب، الذي ساهم في تبني نظرياتهم وأفكارهم وتغييب العلماء العرب، فأصبح من الـمُسلَّم اعتبار كل ما يصدر عن الغرب هو الحقيقة، وأنهم أصل العلوم الحديثة، في حين أن الغرب أكملوا ما توقف عنده العلماء العرب.


إلى جانب دراسة مصطفى محمود لتخصص الطب، الذي رسخ في ذهنه الخضوع للمنطق، والعقل العلمي المادي اعتمادًا على المبادئ العلمية، أكد أن الدقة الكامنة في العالم والتنظيم المبهر للكون، ما هو إلا تجسيد لعظمة الإله، “وأن الله هو الوجود”، فهذه هي الحقيقة التي بلغها مصطفى محمود بالعلم، بعد رحلة في متاهات الشك، أن الطريق والمرشد لحقيقة الوجود هو العلم، وكل الشكوك حول الخالق ليست إلا سفسطة وتناقض، “وأن العلم الحق لا يتناقض مع الدين”، بل يؤكد معناه، وما يوقع الفرد في الشكوك هو “نصف العلم”.

أما المحور الثاني، فخصصه للخوض في بنية “الجسد”، حيث وضح أن الله تعالى خص كل فرد بفردانيته، وأن أصل البشر واحد، وكل فرد له طابع وشخصية خاصة. لكن تساؤله الجوهري في هذا المحور، حدده في: أي شخصية نُبعث؟ ليجيب مصطفى محمود، أننا نبعث كالبذرة التي تزهر وتثمر، من الفروع إلى الأوراق ثم الثمار، أي بصورة كلية.

أما الذات، فهي الوجه الآخر للحقيقة، فالحقيقة هي الإدراك الفعلي الذي لا يمكن بلوغه إلا من خلال الانفصال عن البعد الزمني، فالزمن يؤثر على الماديات، وتتفاعل معه، لكن الروح أو الذات المدركة منفصلة تمامًا عن الزمن، ويتجلى ذلك عند دراسة أي حالة، مستدلًا بأنه “لا يمكن الإحاطة بأي ظاهرة كاملة أو إدراكها إلا من خلال الخروج عنها وملاحظتها كموضوع”، أي بعيدًا عن التأثيرات الزمنية اللحظية.


ليخلص إلى أن الذات المدركة أو الروح هي وجود مستقل متعالٍ عن الزمن ومتجاوز له ولا تتأثر به، وبالتالي فهي لا تعرف الموت، فيما عبّر عن الوجود الروحي بأنه ذلك الحضور والإدراك الذي لا يمكن مقارنته مع الحضور المادي الذي يتأثر بالزمن، فالروح هي المعيار لقياس الصواب من الخطأ، هو صوت الضمير، هو الحق والسريرة والحرية، والاختيار، والتميز.

ولأنه لا يمكن فصل الجسد عن الروح، خصص لهذه الأخيرة محورًا كاملاً، ليجيب عن سؤال عميق قلما يراودنا حول مصير الذكريات والصور والأرقام المخزنة في ذاكراتنا. وقد يبدو هذا السؤال ساذجًا نوعًا ما، لكن في كنهه يحمل دلالات عديدة، والجواب أن الذاكرة حكمها كحكم الروح، وبالتالي فذكرياتنا مصيرها الروح. أما بخصوص النظريات العلمية البديهية التي نوهم أنفسنا أننا نتعلمها، ما هي إلا تذكر لعلم قديم محفوظ في الروح وليس تعلُّمًا (فصّل كثيرًا في هذه الجزئية وبحجج علمية).


أما في الجزء الثالث، فتناول فيه “العدل الأزلي”، الذي يؤدي بنا لافتراض وجود عالم آخر تتحقق فيه العدالة، أو بتعبير آخر: “الآخرة”. ففكرة العدل الأزلي تقودنا لها الفطرة بشكل تلقائي، وتمكننا من اكتشاف الخطأ والصواب، وتمنح نوعًا من الطمأنينة لدى الفرد، بوجود قوة عادلة، على اعتبار أن الكون مضبوط وخاضع لدقة لا متناهية، ولا مجال للعشوائية.

يتساءل البعض: أين يكمن العدل في ظل هذه الحروب والدمار؟ يجيب مصطفى محمود عن ذلك: أن قمة العدل تتجلى في “أن نتحمل اختياراتنا”، وأن الوضع الذي نحن عليه هو نتيجة لقرار وانعكاس للإرادة والأفعال، ومن المنطق وعدل الله بنا أن نعيش اختياراتنا. كما أن عدالة الله هي محققة بشكل قطعي، لكن أغلبنا لا يرى الصورة كاملة، فالعدالة الإلهية ضرورية لتحقيق التوازن.

لينتقل بنا الكاتب إلى محور آخر لا يقل أهمية عن سابقه، وهو سؤال لابد أن يتبادر إلى ذهن العديد منا: لماذا نُعذّب؟ يستهل مصطفى محمود هذا المحور بتذكيرنا بمدى قوة الله، وعلوه المطلق على الظالمين، وأن عذاب الدنيا ما هو إلا تقويم لمسار حياتنا ليمنحنا درجة للارتقاء للأعلى، وأنها محاولة “إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل”.


ماذا قالت الخلوة؟
الخلوة هي لحظة صدق، لحظة إعادة ترتيب الذات عن طريق الحوار الداخلي الذي يشعرنا بتوقف الزمن، وتلك الحقيقة التي نهرب منها طوال الوقت، ونتجاهلها سواء بوعي أو بدون وعي. فالحق دائمًا متجلٍّ فينا، لكن ما يسعنا فعله هو البحث عن الحق في دواخلنا، وإظهار فطرتنا الطبيعية، لتعبر عنا بتلقائية، لنتصل بالحقيقة، فالحق دائمًا يقودنا إلى الله.

وما لبث مصطفى محمود إلا أن يذكرنا بالتوازن الإلهي في كل محور: التوازن في المخلوقات، الكون، الهواء…، وأن كل شيء موضوع بمقدار مضبوط. وأنا أقرأ وأتمعن في هذا المحور استحضرتني الآية الكريمة: “وخلق كل شيء فقدّره تقديرًا” (الآية 2، سورة الفرقان)، وكذلك “ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها” (الآية 49، سورة الكهف). فهذا التوازن الكوني في المواد، والأشياء، ليس محض صدفة، أو عبث، بل هو تقدير لخالق عظيم.


واختتم الكتاب بمحور المسيح الدجال، الذي اعتبره بمثابة تجسيد لـ”أطماعنا المادية الداخلية”، إذ صرنا عبيدًا للقوة المادية، ظنًا منا أنها مدخل للأمان، ونتوه بحثًا عن طمأنينة في الماديات لكن لا نجدها، بل تكون سببًا في ضياعنا أكثر، وإن استحضار قوة الله وعظمته هو المدخل الوحيد للإحساس بالطمأنينة.

ما يمكن استنتاجه من خلال قراءة وتحليل هذا المؤلف، أن مصطفى محمود اختار محاوره بدقة، ولامس الجوانب التي تثير الشك لدى الشباب، وطرح أسئلة جريئة غالبًا ما يعجز البعض عن طرحها، ليتوصل في الأخير، بالاعتماد على تجربته في دراسة الطب، أن لا تعارض بين الدين والعلم، وأن للدين أهمية بالغة، حيث يمكن من إقامة الضمير، هذا الأخير الذي يتيح لنا توجيه العلم نحو بناء الحضارة، وليس الدمار، و”أن الدين لا يرفض الحياة ولا يرفض العقل”.


رغم أن مصطفى محمود نال الكثير من الانتقادات والتهم، لحد وصفه بالملحد، وكانت تيارات فكرية أخرى لا تتوافق مع مضمون كتبه وبرنامجه، لكن لا يمكننا إنكار أهمية كتبه وعمقها الفكري، إذ تتيح للمرء الخوض في الدين والعلم بشكل متوازن، كما تمكن من خلق روابط بينهما، دون أن يُلغي أحدهما الآخر.

شارك

مقالات ذات صلة