سياسة
مطلع الأسبوع الحالي، برز البيان الختامي للمؤتمر الكردي كمحاولة لرسم مستقبل الأكراد في سوريا الجديدة، ساعياً لمعالجة مظالم تاريخية طال أمدها. ورغم النوايا الإيجابية، أثار البيان جدلاً واسعاً لما حمله من طروحات قد تُفهم كمساس بوحدة الدولة والهوية الوطنية السورية. هذا المقال، يقدم قراءة نقدية للبيان، يحلل من خلالها أبرز النقاط الإشكالية من منظور وطني جامع، بالاستناد إلى خلفيات تاريخية وتجارب دولية، وبروح تسعى للموازنة بين إنصاف الحقوق القومية والحفاظ على وحدة سوريا.
لفهم حساسية ما طُرح في البيان، لا بد من استعراض الخلفية التاريخية للعلاقة المضطربة بين الدولة السورية والأكراد. فمنذ عقود، عانى الأكراد من سياسات تهميش وإنكار ممنهجة، خلال الفترة الناصرية والبعثية، منها حرمان البعض من الجنسية ما تركهم بلا حقوق مواطنة أساسية. إلى جانب ذلك، مارست السلطات تضييقاً ثقافياً ولغوياً شديداً على الأكراد. لم يعترف النظام بخصوصيتهم، وفرض العربية كلغة وهوية وحيدة للدولة. مُنع تعليم اللغة الكردية أو استخدامها في المؤسسات الرسمية، وحوربت أي مظاهر ثقافية كردية بما فيها الاحتفالات القومية. تراكمت عبر هذه السياسات مظلومية كردية عمّقت الفجوة بين الأكراد والدولة المركزية.
طرح البيان الختامي للمؤتمر الكردي جملة مطالب وتصورات حول شكل الدولة السورية الجديدة وضمان حقوق الأكراد فيها. وبينما حمل بعضها بوادر إيجابية نحو العدالة، فإن أربع نقاط أساسية بدت إشكالية من منظور وطني سوري عام:
إن إعادة بناء الهوية الوطنية السورية بعد حقبة الاستبداد مهمة محورية. فقد كشفت التجربة أن الهوية القومية الأحادية التي فرضها النظام تحت شعار العروبة همّشت التنوع الحقيقي في البلاد، فيما يحمل الانكفاء نحو الهويات الفرعية خطر التفكك. المطلوب اليوم هو صياغة هوية وطنية جامعة تقوم على المواطنة المتساوية والاعتراف بالتعدد القومي والثقافي والديني تحت مظلة الوحدة، كما دعا البيان الكردي إلى ذلك. غير أن بناء هذه الهوية لا يتحقق بالنصوص وحدها، بل عبر مسار طويل من المصارحة والمصالحة وبناء الثقة، بحيث يشعر جميع السوريين بأنهم شركاء متساوون في وطن واحد. ويُعد وضع دستور جديد يقر بالتعددية ويلغي النهج الإقصائي، بما في ذلك مراجعة رموز الدولة لتعكس التنوع الوطني، خطوة أساسية في هذا الاتجاه، إلى جانب اعتماد نظام لامركزي إداري يمنح صلاحيات حقيقية للمناطق ضمن إطار الدولة الموحدة. بذلك يمكن تحقيق المعادلة الصعبة: الاحتفاء بالتنوع مع صون وحدة سوريا.
أثار البيان الكردي لدى كثير من السوريين بعض المخاوف الوطنية. الخشية الأبرز هي من سيناريو التقسيم – أي أن تتحول الفيدرالية المقترحة إلى خطوة أولى نحو انفصال فعلي لأجزاء من البلاد تحت وطأة الأمر الواقع أو بضغوط خارجية. يتوجس البعض من أن تشجع سابقة كهذه مكونات أخرى على مطالب مماثلة، أو تستغلها أطراف إقليمية لتعزيز نفوذها عبر تأجيج النزعات الانفصالية. سوريا دفعت أثماناً باهظة للحفاظ على وحدتها خلال الحرب، ولا يزال الوجدان الشعبي حساساً لأي طرح يُشمّ منه رائحة التقسيم ولو بصورة غير مباشرة.
ويزيد من المخاوف أن البيان لم يقتصر على المطالبة بحقوق المواطنة المتساوية، بل ذهب إلى حد المطالبة بإلغاء الطابع العربي للدولة ورموزها، في الوقت الذي يطالب فيه بتمييز قومي خاص للأكراد، وهو ما يعزز الانطباع بأن المشروع المطروح لا يقوم على بناء دولة مواطنة جامعة، بل على تثبيت هوية قومية مزدوجة قد تُضعف الوحدة الوطنية بدل أن تعززها. هذا التناقض بين الدعوة إلى المساواة وبين السعي لامتيازات قومية خاصة يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة العقد الوطني المنشود في سوريا الجديدة.
في المقابل، يحمل السوريون آمالاً وطنية بأن تكون تضحيات السنوات الماضية فاتحة لبناء دولة ديمقراطية تعددية موحدة يتساوى فيها الجميع. الأمل أن تنال كل مكونات سوريا – وفي مقدمتها الأكراد – حقوقهم الثقافية والسياسية كاملة، ولكن داخل سوريا واحدة تتسع للجميع. وقد جسدت دول ناجحة هذه الآمال واقعاً؛ فكندا مثلاً كادت مقاطعة كيبيك تنفصل عنها في استفتاء 1995، لكنها استوعبت المطالب بصياغة علاقة جديدة تعترف بتعدد هويتها الثقافية واللغوية ضمن بلد موحد. كما أن النموذج الأسكتلندي يقدّم مثالاً آخر؛ فبعد استفتاء الاستقلال عام 2014، والذي انتهى برفض الانفصال، تم تعزيز سلطات الحكم الذاتي لإسكتلندا ضمن إطار المملكة المتحدة، بما سمح بامتصاص النزعة الانفصالية مع الحفاظ على وحدة الدولة.
مثل هذه النماذج تمنح السوريين الثقة بأن بناء دولة المواطنة المتساوية ممكن متى توفرت الإرادة الصادقة لدى الجميع.
ينبع نقدنا للبيان الكردي من حرص وطني على مستقبل سوريا الموحدة. لا أحد ينكر المظالم التاريخية بحق الأكراد وينبغي إنصافها، لكن الإنصاف الحقيقي لا يتحقق بمنح كل طرف كياناً خاصاً، بل عبر شراكة وطنية تضمن العدالة للجميع في ظل وحدة الوطن. يجب أن تقوم سوريا الجديدة على مبدأ لا غالب ولا مغلوب بين مكوناتها: فلا الأكثريات تهمّش الأقليات، ولا الأقليات تتجاوز الإجماع الوطني. الطريق إلى ذلك يمر عبر الحوار المسؤول بين كافة الأطراف وصولاً إلى دستور يكفل حقوق الجميع دون انتقاص ويصون وحدة البلاد دون تفريط. عندها فقط سنبدد شبح التقسيم ونحقق حلم سوريا الموحدة الديمقراطية التعددية التي يتشارك جميع أبنائها في بنائها ومستقبلها.